لم يصدّق زميل مصري في "مهنة المتاعب"، عشية 17 تشرين الأول، أنّ اللبنانيين المنتفضين على سوء الوضع المعيشي يستعملون سيارة رباعية الدفع حديثة الطراز كـ "مقهى" متنقل لبيع القهوة، وتأجير النراجيل في وسط بيروت. التفت نحوي مذهولاً وقال باللهجة المصرية المحببة "انتو بتثوروا على إيه، داه الراجل لو عندنا، كان يبقى باشا". سنوات مرّت، والحادثة لا تزال عالقة في رأسي، ليس لطرافتها فحسب، إنّما لدلالاتها القوية على "وهم" السياسات النقدية التي سمحت للبنانيين أن يعيشوا فوق قدرة اقتصادهم الحقيقية بأشواط.
اليوم، وبعد أربع سنوات على حادثة وسط بيروت، لا يزال أسلوب الحياة عند اللبنانيين لا يدلّ في الظاهر على إفلاس البلاد والعباد. فارتفاع أسعار الكثير من السلع والخدمات خمسة وستة وحتّى عشرة آلاف في المئة لم يكبح شهيّة الاستهلاك العادي والتفاخري. السيارات الفارهة تجوب الشوارع، والعادية أيضاً رغم ارتفاع أسعار المحروقات 8000 في المئة. وعدد اليخوت الراسية قبالة الفنادق والمنتجعات السياحية البحرية ارتفع. والمجوهرات والساعات الفخمة في واجهات المحال ما برحت تجذب الأنظار. وحجم استيراد السيجار والكافيار وأدوات الترفيه تجاوز المعدلات المحققة ما قبل الانهيار. والمطاعم والملاهي عادت تغصّ بروّادها. وبحسب دراسة: "براندات" وسلع فاخرة تغزو الأسواق: عودة الاستهلاك المفرط"، أجراها مركز مبادرة سياسات الغد للدراسات"، يتبيّن بالأرقام أنّ استيراد السلع الفاخرة ازداد بنسبة 64 في المئة في العام 2021، وبنسبة 40 في المئة في العام 2022، ووصلت قيمتها الإجمالية إلى 3.5 مليار دولار في غضون عامين.
رأس جبل الجليد
الإنفاق الكبير على الاستهلاك التفاخري، ما هو إلّا "رأس جبل جليد الانهيار"، يقول مدير مركز مبادرة سياسات الغد، وأحد معدّي الدراسة الدكتور سامي عطالله. "والجزء الظاهر لا يعطي فكرة واضحة عن حجم الأزمة الاقتصادية، إن لم نقل إنّه ينقل فكرة مشوّهة عن الواقع. فهو يبيّن أنّ الأمور عادت إلى طبيعتها، في حين أنّ أرقام الاقتصاد الكلي "ماكرو- ايكونومي" تُظهر عمق التبدلات الاجتماعية التي حصلت في المجتمع، والتي أدّت إلى ارتفاع نسبة الفقر (80 في المئة) والهجرة، وزيادة هشاشة الاقتصاد وتراجع القدرة الشرائية لمعظم الشرائح السكانية.
في المقابل، هناك قلّة لم تتأثر بالانهيار، أو حتّى أنّها استفادت منه، تملك قوة شرائية كبيرة وترفع الإنفاق على كلّ ما هو فاخر وكمالي. وهي شبيهة بالطفرة التي يولدها الفيروس"، بحسب عطالله. و"ارتفاع الطلب على الاستيراد قد يكون للاستهلاك الشخصي، أو حتّى للاستفادة من انخفاض الرسوم الجمركية والضرائب بين الأعوام 2021 و2022 و2023 للاستيراد على أسعار رخيصة ومن ثم تحقيق هامش من الربح من عملية البيع بعد رفع الرسم".
الإنفاق الكبير على الاستهلاك التفاخري، ما هو إلّا "رأس جبل جليد الانهيار"
أموال الاغتراب والهجرة
ارتفاع الطلب الاستهلاكي لا يقتصر على السلع الفاخرة من قبل قلة قليلة من اللبنانيين، إنما يمتدّ بالشكل أيضاً إلى ازدياد حركة ارتياد المطاعم والمقاهي والملاهي الليلية. واستعمال السيارات الخاصة بالتنقلات على الرغم من أنّ "كلفة الكيلومتر الواحد أصبحت 11 ألف ليرة"، بحسب أرقام "الدولية للمعلومات". وزيادة الطلب على الأسماء التجارية المعروفة والمشهورة الأعلى ثمناً في ما يتعلّق بالسلع الغذائية ومستحضرات التجميل والتنظيف. وهذا يعود بشكل أساسي إلى "أموال المغتربين والمهاجرين اللبنانيين الذين تزداد أعدادهم عاماً بعد آخر"، وفق الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين. "ففي العام 2023 سُجل هجرة 180 ألف لبناني مقارنة بـ 59 ألفاً في العام 2022". وتقدر "الدولية للمعلومات" عدد اللبنانيين المقيمين في الخارج بنحو 1.8 مليون، منهم أكثر من 800 ألف يعملون. وتستفيد نحو 300 ألف أسرة لبنانية من تلقي التحويلات من الخارج. وإذا افترضنا أنّ عدد أفراد الأسرة هو أربعة، فهذا يعني أنّ 1.2 مليون لبناني يتلقّون تحويلات من الخارج بالعملة الأجنبية، ويملكون قوة شرائية كبيرة تخولهم الصرف والإنفاق على شراء السلع والخدمات. وذلك مقارنةً ببقية اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية". وبحسب شمس الدين "فمن الصعوبة بمكان إحصاء قيمة هذه التحويلات التي يتلقاها اللبنانيون في الداخل. وهي حتماً أكبر من تقديرات صندوق النقد والبنك الدوليين، إذ تراوح بين 6 و7 مليارات دولار". فـ "قياساً إلى الحركة التي نراها في الأسواق، يظهر أنّ قيمة التحويلات تتجاوز هذا الرقم بأشواط"، من وجهة نظر شمس الدين. وجزء غير قليل من التحويلات يحمل باليد عند زيارة البلد أو يرسل عبر القادمين لانعدام الثقة بالقطاع المصرفي وارتفاع كلفة التحويلات عبر شركات تحويل الأموال".
العلامات التجارية تعود بعد غياب
هذا الواقع شجّع العلامات التجارية المشهورة "البراندات" على العودة إلى لبنان بعدما تركته في العامين الأولين من الانهيار، وتحديداً في العامين 2020 و2021. فـ "عادت عقود الاستثمار الأجنبية في مجالي المطاعم والملابس لتشهد ارتفاعاً ملحوظاً منذ نحو عام تقريباً"، يقول رئيس الجمعية اللبنانية لتراخيص الامتياز – الفرانشايز، يحيى قصعة. وغالبية العلامات التجارية عادت لتفتح محالَّ لها في الأسواق التجارية الكبيرة - "المولات". ويستعدّ وسط العاصمة التجاري لاستقبال خمسة مطاعم جديدة. وهناك محاولات من الشركة المشغِّلة للوسط لإعطاء المستثمرين حوافز من خلال خفض بدل الإيجارات وتقديم الخدمات الأساسية وغيرهما من التسهيلات. ومن المهم جداً، بحسب قصعة، أن "تكون الاستثمارات مستدامة لاهميتها الاقتصادية وإطلاقها العديد من فرص العمل وإعادة إحياء المناطق".
على الرغم من أهمية الاستهلاك بوصفه "الغاية الأساسية لكلّ النشاطات الاقتصادية"، أي المحرك للاقتصاد، فهو يصبح "حالة مرضية" إذا كان "يعتمد على الاستيراد بنسبة 92 في المئة كما هو الحال في لبنان"، بحسب ما تُبين أرقام مركز مبادرات الغد للسياسات". ولعلّ الأخطر هو اقتصاره على قلة قليلة من المواطنين على حساب الأكثرية التي ترزح تحت الفقر والعوز. وهو "سيعود ويرتد سلباً على مستقبل البلد” برأي عطالله. "خصوصاً في ما يتعلق بتراجع مستويات التعليم والخدمات الصحية والاستشفائية والاجتماعية بشكل عام".