حَرم تخلّف "الكونسورتيوم" النفطي بقيادة "توتال"عن توقيع عقد الاستكشاف في البلوكين 8 و10 البحريين، الاقتصاد من جرعة "أوكسيجين" معنوية. فاللبنانيون الغارقون في الإحباط ينتظرون بفارغ الصبر هبوب رياح غربية مشبّعة بالغاز. علّها "تفتح" القنوات المالية، بعدما "زكّمتها" الانهيارات المصرفية وتراجع الاستثمارات الخارجية.
كان يفترض بالائتلاف النفطي المكوّن من "توتال إنيرجيز" و"إيني" و"قطر للطاقة" أن يوقّع يوم الجمعة الموافق فيه 16 شباط 2024، عقد الاستكشاف في البلوكين 8 و10. وذلك من بعد تقدّمه، منفرداً، بطلبي اشتراك في دورة التراخيص الثانية للمزايدة على هاتين الرقعتين البحريتين. إلّا أنّ هذا ما لم يحصل.
وضع الأمور في سياقها الزمني
في تشرين الثاني 2021، أطلق لبنان جولة التراخيص الثانية للتنقيب عن النفط والغاز بالمياه البحرية. ومُدِّدَ الموعد النهائي لتقديم طلبات الاشتراك عدّة مرّات نظراً لعدم إبداء أيّ من الشركات النفطية الاهتمام. وتتضمّن الجولة أرقام الرقع المفتوحة للمزايدة، وهي 8 قطع من أصل 10. إذ جرت المزايدة على الرقعتين 4 و9 في دورة التراخيص الأولى.
في 2 تشرين الأول 2023، أعلنت وزارة الطاقة والمياه - هيئة إدارة قطاع البترول في بيان: "عند الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم وقبل ساعة واحدة من انتهاء موعد تقديم الطلبات للاشتراك في دورة التراخيص الثانية، تقدّم الائتلاف المكوّن من "توتال إنيرجيز" الفرنسية و"إيني" الإيطالية و"قطر للطاقة" بطلبي اشتراك في دورة التراخيص الثانية للمزايدة على الرقعتين 8 و 10 في المياه البحرية اللبنانية".
في كانون الأول 2023، أطلق لبنان الدورة الثالثة للتراخيص. وتشمل جميع البلوكات التي ليس فيها حقّ حصري لأيّة شركة. ما يعني قانوناً البلوكات 1 و 2 و 3 و 4 في النصف الشمالي من المنطقة الاقتصادية الخالصة، والبلوكات 5 و 6 و 7 و 8 و 10 في النصف الجنوبي.
الإشكالية القانونية
يتضح أنّه في دورة التراخيص الثالثة، فتحت الدولة الرقعتين 8 و 10 للتلزيم، على الرّغم من كونهما أصبحتا من حصّة "توتال". وهذه هي العقدة الأولى. أمّا العقدة الثانية فتمثّلت في تخلّف "توتال" عن توقيع عقد الاستكشاف مع الدولة في 16 شباط. "الأمر الذي من شأنه إمّا أن يعيد البلوكين 8 و10 للدولة حكماً، ويضعهما من ضمن جولة التراخيص الثالثة بحسب الرأي القانوني. وإمّا استئناف التفاوض مع "توتال" على الطريقة اللبنانية. خصوصاً أنّ "توتال" لم تغلق الباب كلّياً، لتوقيع العقد"، يقول الباحث في العلاقات الدولية وشؤون الطاقة الدكتور شربل سكاف. وتحاجج "توتال" من باب أنّها تملك مهلة 6 أشهر لتوقيع العقد من تاريخ تقدّمها لدورة التراخيص الثالثة في 2 تشرين الأول 2023، أي أنّ المهلة الفعلية تنتهي في 2 نيسان 2024. في حين أنّ القانون يعطي مهلة 30 يوماً للتوقيع على العقد من بعد إبلاغ توتال بدفتر الشروط في 16 كانون الثاني 2024.
عدم توقيع توتال على العقد يعود، بحسب الخولي، إلى خلافات على الشروط التي وضعتها الحكومة اللبنانية
ماذا حصل من الناحية التقنية؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ الحرب الدائرة في فلسطين وإسرائيل، وعلى الحدود الجنوبية للبنان، "أثّرت على مختلف الأنشطة الاقتصادية، انطلاقاً من الاعتبارات الجيوسياسية"، يقول المنسّق العام الوطني "للتحالف اللبناني للحوكمة الرشيدة في الصناعات الاستخراجية"، مارون الخولي. "خصوصاً في ظلّ عدم الاستقرار الإقليمي والصراع المستمر بين إسرائيل وفلسطين، والمخاوف ذات الصلة بأمن العمليات في المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان بالنسبة إلى شركة "توتال" وشركائها في الكونسرتيوم، و"اني" و"قطر للطاقة". واحتمال أن يؤثّر عدم الاستقرار هذا، على تكاليف التأمين وسلاسل التوريد وملف الأخطار الإجمالي للمشروع".
وبالإضافة إلى المخاطر الأمنية، فإنّ عدم توقيع توتال على العقد يعود، بحسب الخولي، إلى خلافات على الشروط التي وضعتها الحكومة اللبنانية. وكانت هناك نقطتان رئيسيتان للخلاف:
الأولى: في ما خصّ البلوك الرقم 8، أرادت "توتال" المزيد من الوقت حتّى عام 2027 لاتخاذ قرار بشأن إجراء المسوحات الزلزالية. في حين أصرّ لبنان على جدول زمني مدته 3 أشهر لاتخاذ القرار. وفي البلوك الرقم 10، طلبت توتال المرونة في مواعيد الحفر، في حين اشترط لبنان الحفر خلال سنة واحدة مع تمديد ستة أشهر بعد التوقيع.
الثانية: عدم موافقة توتال على سعي لبنان إلى زيادة حصّته المالية في الرقعتين، لتراوح بين 56 في المئة و 62 في المئة.
وبرأي الخولي، فإنّ "الدولة اللبنانية أخطأت". إذ "لا يستطيع لبنان أن يتجاوز ما يحصل في المشهدين السياسي والعسكري وتأثيراته على تلك العقود. خصوصاً أنّه يخضع لعدة اعتبارات سياسية وأمنية وتقنية. وبالتالي القفز فوقها وتجاهلها، وكأنّ الأمور بأحسن حال وليس هناك تهديدات أو عراقيل من شأنها نسف كلّ تلك العقود. أمّا في ما خصّ التداعيات فيرى الخولي أنّه "سيُطرح البلوكان 8 و10 في جولة التراخيص الثالثة. ما سيؤخّر التقدم في استغلال هذا المورد المحتمل للنفط والغاز. ولا سيما في ظلّ انعدام حضور أيّة شركات تنقيب عالمية مهتمّة في الوقت الراهن لأسباب تصعيد الصراع في الشرق الأوسط. علماً أنّ هذا سيؤدي أيضاً إلى إبطاء عملية تخصيص التراخيص للبلوكات المتبقية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، وهي عملية ستكون طويلة وغير واضحة". وسيلحق هذا الحدث من وجهة نظر الخولي "الأذية بسمعة لبنان لدى المستثمرين. وقد يجعلهم حذرين من مشاريع الطاقة اللبنانية المستقبلية بسبب عدم المرونة والتأخير". وإذا أردنا أن نستبعد العوامل السياسية، فإنّ "استثمار الشركات الدولية للتنقيب عن النفط والغاز حول مشاريع عالية المخاطر، وخاصة في منطقة مضطربة يعتبر أمراً نادراً"، يضيف الخولي. و"على لبنان أن يوازن بين شروط العقود والمخاطر الاقتصادية الأساسية. وعليه فإنّ "فهم العوامل المؤثّرة بشكل أفضل ومراقبة أوضاع المنطقة والموقف الكامل يعتبر أمراً أساسياً ليبنى على الشيء مقتضاه".
موقف الدولة اللبنانية كان محقاً
"من المهم النظر إلى السياق الزمني لمسار التقدّم على دورة التراخيص الثانية"، بحسب ديانا القيسي الخبيرة في مجال حوكمة الطاقة، وعضو الهيئة الاستشارية لـ "المبادرة اللبنانية للنفط والغاز" - LOGI. فـ "تحالف "توتال" تقدّم على مناقصة التنقيب قبل ساعة من إقفال باب دورة التراخيص الثانية، وقبل صدور نتائج التنقيب في البلوك الرقم 9 الذي يتوسط البلوكين 8 و10. التقدّم في الربع ساعة الأخيرة يعني "التردّد من حيث الشكل"، من وجهة نظر قيسي. "الأمر انعكس في المضمون عرضاً رديئاً، لا يصبّ في مصلحة الدولة اللبنانية". وككلّ المفاوضات وضع الائتلاف النفطي من بعد تقدّمه لنيل الرخصة، الحدّ الأدنى الذي يمكن أن يقدّمه. خصوصاً لجهة الوقت وتقاسم الأرباح مستقبلاً. في حين رفعت الدولة اللبنانية من سقف شروطها، وفاوضت من باب "خذه أو أتركه". فأتى موقف الدولة اللبنانية كـ"شحمة على فطيرة الشركة المنقّبة"، لترفض الشروط التي وضعتها الدولة". مع العلم أنّ "الدولة اللبنانية قامت بالصواب للمرّة الأولى"، برأي القيسي. فـ"الآمال على البلوكين الرقمين 8 و10 المواجهين للرقع التي تمّت فيها الاكتشافات من الجانب الإسرائيلي كبيرة جداً. وكان من المعيب على الدولة اللبنانية أن تتنازل عنها مقابل حصّة زهيدة. إذ كان من المتوقّع أن يكون العرض قد تضمّن حصّة تقلّ عن 50 في المئة للدولة، وأن تقبل بشروط توتال وإعطائها مهلة طويلة تصل إلى 4 سنوات للبدء بالاستكشاف. في حين أنّ العملية يجب أن تنتهي خلال أشهر قليلة".
بين إطلاق دورة تراخيص جديدة، من غير المعلوم إذا كانت ستلاقي اهتمام "الكونسورتيوم" القديم، وتجذب شركات جديدة، وبين استئناف التفاوض مع ائتلاف "توتال"، يبدو أنّ الأمور موضوعة على "كف عفريت" التأجيل، مرة جديدة. فالشركات الدولية ستحاول تبخيس العروض انطلاقاً من عدم الاكتشاف مسبقاً والأوضاع الأمنية، في حين أنّ الدولة اللبنانية يهمّها تحقيق مكاسب سريعة بغضّ النظر عن النتيجة، أملاً بإحداث خرق إيجابي. فهل تستمر الدولة على موقفها القوي أم تعود للتفاوض عن ضعف؟