عادت الحماوة إلى الملف الاقتصادي الداخلي من "آتون" خطّة الحكومة للانتظام المالي وإعادة هيكلة المصارف. وقد "أذكى" نارها إبطال مجلس شورى الدولة البند المتعلّق بإلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف في خطة "إستراتيجية النهوض بالقطاع المالي".
عشية اجتماع مجلس الوزراء لمناقشة مشروع القانون المتعلّق بـ "معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها" وإقراره، أصدرت "الهيئات الاقتصادية"، و"جمعية المصارف"، بيانين منفصلين. أكّد البيان الأول على موقف الهيئات الرافض للمشروع جملةً وتفصيلاً. في حين فنّد الثاني النقاط الأساسية التي يجب إيرادها في أيّ مشروع يتعلّق بإعادة هيكلة المصارف، مؤكّداً عدم جواز التراجع عنها قبل الرجوع إلى الجمعية العمومية للمصارف من جديد.
شروط المصارف
من بعد الإشادة بـالمبادئ التي أقرّها قرار مجلس شورى الدولة الرقم 209 بتاريخ 6/2/2024، وبالفقرة الحكيمة التي نصّت على إبطال شطب ودائع المصارف في "المركزي"، وضعت جمعية المصارف شروطاً ثلاثة للموافقة على أيّة خطّة لهيكلة المصارف. والشروط هي:
أن يتضمّن المشروع نصّاً واضحاً وصريحاً لا يقبل التأويل أو الاجتهاد يوضح أنّ الأزمة المالية الحالية في لبنان هي "أزمة نظامية".
أن تتحمل الدولة جميع التزاماتها القانونية خاصّة في ما يتعلّق بتغطية الخسائر في موازنة مصرف لبنان، ممّا يعود بالمسؤولية على الدولة ومصرفها المركزيّ لإعادة جميع الإيداعات من مصرف لبنان إلى المصارف لكي تعيدها كاملةً إلى المودعين.
تؤكّد المصارف مجدداً التزامها الدائم بالقانون، بما في ذلك الدستور اللبناني، وبالأحكام القانونية المعمول بها.
موقف الهيئات
في الموازاة، لاقت الهيئات الاقتصادية موقف جمعية المصارف باعتبار أنّ مشروع القانون المنوي إقراره تجاهل الطابع النظامي للأزمة. وصوّرها أزمة بين مصرف ومودع ليس إلّا، في حين أن الدولة اتّخذت سلسلة قرارات مخطئة بدأت مع التخلّف عن سداد اليوروبوندز ولم تنتهِ بالدعم، وأنّ مصرف لبنان ألزم بتعاميمه وتعليماته المصارف بإيداع الغالبية الكبرى من دولاراتها لديه. وبمجرد اعتبار الأزمة نظامية، فإنّ "المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الدولة عبر الحكومات المتعاقبة التي استدانت وهدرت واستنزفت الأموال"، بحسب بيان الهيئات. وهذا ما أثبته "تقريرا "ألفاريز ومارسال" و"أوليفر وايمان"، قبل اندلاع الأزمة وبعدها". وعليه، يتحتم على الحكومة الالتزام بالمادة 113 من قانون النقد والتسليف التي تلزمها بتحمّل خسائر مصرف لبنان. وعدم الاكتفاء بضخّ 2.5 مليار دولار في مصرف لبنان فقط، والمساهمة بشكل هزيل في صندوق استرداد الودائع، في مقابل فجوة هائلة تفوق 72 مليار دولار. ولا يمكن من وجهة نظر الهيئات إعفاء مصرف لبنان من مسؤولية الخسائر، وهو الذي لبّى طلبات الدولة التمويلية رغم علمه بعدم قدرة الدولة على الإيفاء.
استشراف الجلسة الحكومية
على المقلب الحكومي، من المتوقّع ألّا يحظى مشروع قانون "معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها"، على الإجماع المطلوب لإحالته إلى البرلمان تمهيداً لإصداره بقانون. فمن أصل 24 وزيراً هناك 9 معتكفين، والوزراء المتبقون غير متوافقين على المشروع لأسباب مختلفة. وبحسب مصادر متابعة، فإنّ "الوزراء المحسوبين على حركة أمل وحزب الله سيرفضون المشروع من باب أنّه يمثّل استمراراً لإملاءات صندوق النقد الدولي. وهم لم يصوّتوا في الأساس على الاتفاق المبدئي الموقع في نيسان 2022، والذي تضمّن النقاط الرئيسية نفسها التي يتضمّنها المشروع المنوي طرحه. ووزير المهجرين عصام شرف الدين سيقدّم اعتراضاً خطياً على مشروع القانون، وسيرفقه بدراسة أعدّها المحامي الدكتور باسكال ضاهر، سبق أن أودعت الأمانة العامة لمجلس الوزراء. وتُبيّن الدراسة المخالفات القانونية والدستورية لمشروع القانون المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها. وتقترح حلولاً قانونية بديلة للخروج من الأزمة. في حين لا يتوقع أن يصوّت وزير التربية عباس الحلبي بالإيجاب على مشروع الحكومة. ولن يلاقي المشروع إلّا موافقة مُعدّه، نائب رئيس الحكومة الوزير سعادة الشامي وعدد قليل من الوزراء. حتّى أنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يعتبر المشروع مسودة، ستلحق به تعديلات كثيرة. وقد صرّح لصحيفة "النهار" بأنّ "الدولة مسؤولة مئة في المئة عن الودائع". وهو "يحاول ألّا يحمّل المودع أو المصارف المسؤولية كاملة، على اعتبار أنّ المسؤولية تقع أيضاً على الدولة والمصرف المركزي، مفنّداً بالأرقام أنّ الودائع المؤهّلة تبلغ 40 مليار دولار وتبلغ الودائع غير المؤهّلة 45 ملياراً". وذلك من مجمل ما تبقى من ودائع في القطاع المصرفي، بالإضافة إلى التوظيفات الإلزامية الموجودة في مصرف لبنان والتي تقدّر بحوالى 9 مليارات دولار.
خطة ضاهر – شرف الدين
بين إعادة هيكلة المصارف وشطب الودائع وتراتبية المسؤوليات، برز الموقف الذي سيقدّمه الوزير شرف الدين، والذي أعدّه الدكتور ضاهر. وهو الموقف الذي ينفي الحاجة إلى أيّ قانون جديد يرمي إلى معالجة أوضاع المصارف بسبب توفّر عدد من القوانين. منها:
قانون تسهيل اندماج المصارف الرقم 93/192 والمعدل بالقانون 675/2005
القانون 2/67.
تفعيل المادتين 9 و10 من المرسوم الاشتراعي الرقم 120 لعام 1983 وإعادة فتح السوق الشرعية للتداول الحرّ للعملات، وتمكين المصرف المركزي من تكوين احتياط العملات الصعبة.
تفعيل المادة 208 من قانون النقد والتسليف المتصلة بتمكين المصرف المركزي من ضبط معايير القطاع المصرفي لكلّ مصرف مراقبتها، وهي: الملاءة، السيولة، رأس المال، الأموال الخاصّة.
فرض إعادة القروض التي سددت على سعر صرف وهمي وقدره 1500 ليرة.
الجميع سيدفع الثمن، لكن المهمّ: العدالة
الاختلاف العمودي على تحمّل مسؤولية الانهيار بين الحكومة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين لن يجنّب أحداً الخسارة، لكنّ المهم أن "يتمّ توزيع الخسائر بعدالة"، يقول عميد كلية إدارة الاعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا البروفيسور بيار الخوري. "فعدا البعد الأخلاقي للعملية، فمن المهم أن تراعي الخطط مبدأ الثواب والعقاب للحفاظ على السمعة من جهة، وضمان عودة الاستثمارات والأموال والودائع في المستقبل من الجهة الأخرى". ومن المهم أيضاً برأيه "استعادة الصدقية والثقة. خصوصاً بالنسبة إلى القطاع المصرفي. وهذا لا يتحقّق إلاّ من خلال جذب القطاع الشركاء الدوليين. إذ لم يعد القطاع المصرفي يستطيع التحليق من دون جناحي الشراكة الأجنبية والتشريعات الصحيحة. وهذه قرارات مُرّة على القطاع المصرفي، المندمج بالطبقة السياسية إلى حد بعيد، ولن يأخذها خلافاً لمصلحته. فمن المهم بالنسبة إليه أن يبقى صانعاً للاقتصاد على نحو يضمن استمرار الحظوة السياسية خلافاً للمبادئ العامًة التي تقول: تُصنع السياسة من أجل حسن سير الاقتصاد.
على الرغم من هذه السوداوية، يرى البروفيسور خوري بعض البوادر الإيجابية المتعلّقة بالمحاسبة، والتي بدأ الجميع يتصالح معها، مثل: التدقيق في ودائع الموظفين الحكوميين، وأفراد القطاع الخاص، ومؤسساته والطلب من المصارف إعادة الأموال المحولة وغيرها من الاجراءات المستجدّة". ويرى خوري أن "رمي المصارف كامل المسؤولية على عاتق الدولة لن يمرّ. وعليها أن تتحمّل جزءاً من الفاتورة من توزيع التكاليف. كما لن يمرّ رمي الحكومة مسؤولية الاستدانة على مصرف لبنان، والتنصّل من مرحلة الاستدانة". ومع "التشاطر" في توزيع المسؤوليات سيبقى الصراع على الحصّة، من دون أن يعني ذلك من وجهة نظر خوري "تجنيب المودعين دفع بعض الأثمان، بشرط أن تستجيب مبدأ العدالة".
ما طُرح من مشاريع، وما قُدّم وسيقدّم من خطط رسمية وخاصّة لا يزال يدور حول السعي إلى إفراغ القطاع المصرفي من أمواله، "في حين أنّ استعادة الثقة ستحول دون سحب كلّ المبالغ من القطاع المصرفي"، بحسب خوري. "فالمودعون الصغار الذين يثيرون الضجة خرجوا، ومن مصلحة الكبار الإبقاء على ودائعهم في قطاع متعاف بشرط إمكان الوصول إليها ساعة يشاؤون. ولعلّ أكثر ما يخشاه خوري هو أن تكون الخطط تهدف إلى تصفية المودعين تمهيداً لبيع القطاع. مع العلم أنّ قيمته في حال استعادة الازدهار واكتشاف النفط والغاز ستفوق بأضعاف ما هي عليه اليوم.
ككل مرة ستبرّد التناقضات العميقة بين أركان السلطة إمكان الوصول إلى تسوية جدّية ونهائية بشأن تراتبية المسؤوليات. وسترجح هذه التناقضات من جديد كفّة استمرار الأمر الواقع إلى أجل غير مسمى.