غاب خلال أعوام الانهيار "قطّ" المصارف التجارية، فلعب "فأر" شركات تحويل الأموال. استطاعت هذه الشركات، التي تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، أن تتخطّى دورها التقليدي باستقبال وإرسال الحوالات المالية الداخلية والخارجية مقابل عمولة، لتحلّ مكان المصارف. فتوسّعت خدماتها عمودياً لتشمل "توطين" الرواتب أو المبالغ المحوّلة، وإصدار بطاقات الائتمان المدينة Dept Cards، وتسديد الفواتير، ومختلف الرسوم المتوجّبة على المكلّفين للدوائر الرسمية، ومنها وزارة المالية. إلاّ أنّه ما لم يكن في الحسبان، أن يخرج العميل من تحت "مزراب" السطو على أمواله في المصارف، إلى تحت "دلفة" فوضى الشركات في علاقتها مع الدولة، إن لم نقل "احتيالها"، إذا "حمّلنا ذمّتنا" وأسأنا النية!
قبل نهاية العام الماضي، توجّه أحد المكلفّين إلى فرع إحدى شركات تحويل الأموال المستجدّة على الساحة اللبنانية ليتحقق من إمكان تسديد رسم الطابع المالي بواسطتها. وذلك بعدما سمع الكثير عن خدماتها مع وزارة المال. فلم "تكذّب الشركة خبراً"، مؤكّدة صحّة المعلومات. فدفع الرجل الرسم عند توقيع العقد ومقداره نحو عشرين مليون ليرة وحصل من الشركة على إيصال رسمي معنون بجملة: "إيصال تحصيل لصالح وزارة المالية". وفي التفصيل كُتب على الإيصال إلى جانب البيانات الشخصية للمكلّف، أنّ "نوع المعاملة: ضرائب ـ ص 14". وذيّل الايصال بعبارة "إن رسم الطابع المالي مسدّد مسبقاً".
وزارة المال لا تعترف باستيفاء شركة تحويل الأموال رسم الطابع المالي
إلى الآن، يبدو كلّ شيء قانونياً والمعاملة لا تشوبها شائبة. إلّا أنّ البلدية طلبت عند تسجيل العقد لديها، مع بداية هذا العام، أن يكون الرسم مسدّداً في العام نفسه، علماً أنّ رسم الطابع المالي يسدّد مرة واحدة فقط، فعاد المكلّف إلى شركة تحويل الأموال وسددّ الرسم نفسه مرّة ثانية. إلّا أنّ المفاجأة كانت في أنّ المبلغ المسدّد لم يحتسب وتالياً يعتبر كأنّه لم يسدّد. والشركة تصرّ على عدم إمكان إرجاع المبالغ المقبوضة بحجّة أنّها سبق أن حوّلتها إلى وزارة المال. فأين ذهبت الأموال؟
مصادر معنية في "المالية" لفتت إلى أنّ "الوزارة صرّحت للشركة باستيفاء رسم الطابع تحت خانة (ص-14) للمبالغ الصغيرة التي لا تتجاوز 500 ألف ليرة. على اعتبار أنّ القانون يجيز وضع الطوابع لصقاً على العقود في حال عدم تجاوزها الخمسمئة ألف ليرة. وعليه، "يعتبر هذا المبلغ كأنّنا نستغني عن الطوابع الملصوقة على المعاملة، من أجل تسهيل أمور المواطنين"، بحسب المصادر. أمّا في حال تجاوز الرسم هذا المبلغ فيفرض القانون تأدية رسم الطابع المالي بواسطة آلات الوسم في دوائر المالية المختصّة، واستتباعاً تكون الشركة استوفت رسماً لا يحقّ لها استيفاؤه، وتالياً لا يمكن اعتباره مسدّداً.
طريقة استيفاء رسم الطابع المالي بحسب القانون
بحسب المرسوم الاشتراعي الرقم 67 تاريخ: 05/08/1967، تنصّ المادة 20 على أنّ رسم الطابع المالي يؤدّى بإحدى الطرق الآتية:
- عن طريق إلصاق الطوابع المالية المعدّة خصّيصاً لهذه الغاية على أن لا تتجاوز قيمة الرسم المتوجب على الصك أو الكتابة 500,000 ل. ل. وباستثناء الحالات التي ينصّ فيها القانون صراحةً على اعتماد طريقة أخرى لتسديد الرسم.
- بواسطة آلات الوسم لدى الأشخاص المرخّص لهم باستخدامها وفقاً لأحكام هذا القانون على أن لا تتجاوز قيمة الرسم 500.000.000 ل. ل.
- نقداً أو بموجب شك مصرفي لدى الكتّاب العدل عن الصكوك والاسناد التي ينظمّونها أو يصادقون عليها مهما بلغت قيمة الرسم على أن تدرج قيمة رسم الطابع المالي في الإيصال الذي يصدره الكاتب العدل.
- نقداً أو بموجب شك مصرفي في صناديق المالية إذا تجاوزت قيمه الرسم 500,000 ليرة لبنانية، وذلك بموجب أوامر قبض صادرة عن الدوائر المالية المختصّة في المحافظات أو عن الدوائر العقارية التي استمعت إلى العقد، بما في ذلك المكاتب العقارية المعاونة، أو عن المحتسبين في الأقضية، أو عن مصلحة تسجيل السيارات والآليات التي استمعت إلى عقد البيع، بما في ذلك المكاتب التابعة للمصلحة، على أن يدرج رسم الطابع المالي ضمن أمر القبض المنظّم لاستيفاء رسوم التسجيل ورسوم السير ورسوم إجازات العمل.
وتحدّد دقائق تطبيق هذه المادة عند الاقتضاء بموجب قرار يصدر عن وزير المال.
أين تذهب الأموال؟
المصادر المعنيّة وعدت بـ "ملاحقة الملف، وإنصاف المكلّف، بعد توجيه تنبيه إلى الشركة المعنية بعدم استيفاء الرسوم عن الطابع المالي التي تتجاوز قيمتها 500 ألف ليرة". إلّا أنّ السؤال، أين تذهب الأموال؟ خصوصاً بالنّسبة إلى المكلّفين الذين لا يطالبون بها، وهم كثيرون بحسب ما تبيّن من المراجعات، على أساس أنّ المبلغ "مش حرزان"، وتوفيراً للجهد والوقت، لا جواب عليه! على الرغم من أنّ المنطق يفترض بقاءه في الشركة.
الشركة المعنية، التي نتحفّظ عن ذكر اسمها في هذه العجالة، كانت قد عمدت خلال الأعوام القليلة الماضية إلى بناء أكبر شبكة علاقات داخلية مع المؤسسات العامّة، تتخطى دورها كشركة معنية بتحويل الأموال. وقد ارتكز عملها في الواقع على تولّي المدفوعات لمصلحة الدولة. وذلك بعد الاتفاق مع معنيين وموظّفين في الإدارات العامّة على الطلب من المواطنين تسديد المتوجبات عبرها، من دون أيّة عمولة.
طريقة العمل هذه أثارت الكثير من التساؤلات في البداية عن مصلحة الشركة في تقديم خدمات مجانية، ثم أخذت تتوضح. فالهدف يبدو أنّه يتخطى الحصول على أوسع "داتا" شخصية عن الأفراد والشركات وكلّ ما يتعلق بهما من معلومات شخصية وعامّة، إلى الاستفادة من فجوات في النظام لمراكمة الأرباح. وإذا لم تتكشّف جميع فصول هذه العملية المستمرّة منذ سنوات وايقافها والتعويض على المكلّفين، فستتحوّل احتيالاً يدفع ثمنه المواطن مرّة جديدة من جيبه.
1