عادت "مشهدية" الطوابير أمام المحطّات لتقضّ مضاجع اللبنانيين، بعدما ظنّوا أنّهم انتهوا منها إلى غير رجعة مع رفع الدعم. التهافت، أمس، على تعبئة البنزين خوفاً من انقطاع المادة، لا يعود إلى عرقلة سلاسل التوريد مع تفاقم الأزمة في البحر الأحمر، ولا إلى الخوف من ارتفاع الأسعار، إنّما بسبب إعلان تجمّع شركات النفط المحلّية التوقّف عن الاستيراد. والقرار أتى على خلفية إقرار موازنة 2024 ضريبة على الشركات التي استفادت من الدّعم مع بدء انهيار سعر الصرف.
رضي المواطن بـ "همّ" دفع 17 في المئة من الحدّ الأدنى للأجور ثمناً لصفيحة بنزين واحدة، وفقدان النقل العام، ولم يرض "همّ" الصراع على النّفوذ ومراكمة الثروات، باتّباع الأصول. ففي الدول غير المصنّفة بـ "جمهوريات الموز" يُحلّ الصراع، مهما عظم، بين الشركات والدولة في القضاء، ولا يؤخذ "المستهلك" رهينة للضغط على النوّاب للتراجع عن إقرار تشريعات. فكيف إذا كانت القدرة الاحتمالية لهذا المستهلك قد استنفدت كلّياً مع الاستيلاء على جنى عمره في المصارف، وتجريده من الطبابة والاستشفاء والتعليم، وتعريته من تعويضات نهاية الخدمة وحرمانه من خدمة النقل العام وتركه على "حديدة" القهر والعوز والجوع والفقر والبطالة. وبدلاً من الاحتكام إلى المجلس الدستوري بواسطة النواب لنقض ضريبة في الموازنة، قرّر المستوردون الضغط على "اليد" التي توجع السياسيين والمتمثّلة برفع منسوب نقمة قواعدهم الشعبية، لوقف تنفيذ قانون.
المحطات تفرغ سريعاً
التوقّف عن استيراد المحروقات يعني في بلد مثل لبنان، انقطاع البنزين والمازوت والغاز سريعاً جداً. فبالإضافة إلى استغلال البعض الوضع لبيع المواد في السوق السوداء وتحقيق أرباح مضاعفة، فإنّ تهافت المواطنين على المحطّات يفرغها سريعاً. فـالمحطّة الصغيرة التي تبيع 20 ألف ليتر خلال عشرة أيام، ستفرغ في يومين إذا ارتفع الطلب إلى عشرة آلاف ليتر في اليوم الواحد"، بحسب العضو المؤسس لتجمّع أصحاب المحطات جوزيف الطويل. "في حين تخزّن المحطّات المتوسّطة تخزّن بين 70 و100 ألف ليتر. وقلّة من المحطاّت الميغا التي يصل مخزونها إلى 200 ألف ليتر. وكلّ هذا المخزون لا يكفي لأياّم محدودة في ظلّ ارتفاع الطلب. وهذا ما كنّا نشهده خلال الأزمات السابقة".
المشكلة لا تنحصر في فقدان المحروقات، إنّما بتكبّد أصحاب المحطاّت، ولاسيّما الصغيرة منها خسائر كبيرة. ففي ظلّ الارتفاع المستمرّ في أسعار النّفط عالمياً وعدم صدور جدول جديد لتركيب الأسعار قبل يوم غد الجمعة. فإنّ المحطات ستبيع كامل مخزونها على سعر اليوم وستضطر لتشتري كمّية أقلّ على سعر أعلى في الغد. الأمر سيحرمها من السيولة أو تآكل رأسمالها وتصغير حجم أعمالها.
المشكلة لا تنحصر في فقدان المحروقات، إنّما بتكبّد أصحاب المحطاّت، ولاسيّما الصغيرة منها خسائر كبيرة
أكثر من 8 مليارات دولار استيراد محروقات في عامين
مقابل الخسائر التي يتحمّلها المواطن، والمستثمر الصغير في عمل يدرّ عليه بعض العوائد، تستمرّ الشركات المستوردة بإدارة ظهرها لكلّ المشكلات التي يعانيها البلد. رافضة المساهمة ولو بالحد ّالأدنى من الأرباح الباهظة التي حقّقتها. وبجولة سريعة على أرقام استيراد الزيوت والوقود المعدنية خلال السنوات الخمس الماضية يتبيّن "عودة ارتفاع استيراد المحروقات في العام 2021، بعدما شهدت انخفاضاً ملحوظاً في العام 2020، نتيجة صدمة الانهيار والإقفال العام الذي فرضته جائحة كورونا"، بحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. وقد وصلت قيمة المستوردات خلال هذين العامين إلى 8.2 مليار دولار مقسمة على الشكل التالي:
3.1 مليار دولار في العام 2020، منها 850 مليوناً للبنزين، و1.6 مليار للمازوت، و121 مليوناً للغاز، و493 مليوناً للفيول.
5.1 مليار دولار في العام 2021. شكّلت مادّة المازوت الثقل الأكبر منها أيضاً بسبب ارتفاع طلب المعامل والمولّدات نظراً للانقطاع شبه الكامل خلال هذا العام للكهرباء. وكذلك لارتفاع التهريب إلى سوريا نتيجة فرق الأسعار. وتحقيق المهرّبين أرباحاً كبيرة لتقاضيهم ثمن مبيعاتهم بالدولار النقدي والدفع محلياً بالليرة اللبنانية.
أرباح الشركات أيضا كبيرة
بقراءة تلك الأرقام يتبيّن أنّ الشركات ستدفع ضريبة لا تقلّ عن 800 مليون دولار إذا افترضنا أنّ اقتطاع 10 في المئة على 8 مليارات دولار. وهو ما يشكّل رقماً كبيراً جداً ستعمل على التصدّي له بكلّ ما أوتيت من قوة وقدرة. وفي المقابل فإنّ تلك الشركات حقّقت من الدعم أرباحاً أكبر بكثير نتيجة عدّة أسباب، أهمها:
- التهريب إلى سوريا والبيع في السوق السوداء بالدولار النقدي ودفع الأموال للاستيراد بالليرة على سعر مدعوم بدأ بـ 1500 ليرة وارتفع تدريجياً.
- تعمّد البعض تحويل المبيعات بالليرة إلى الدولار في السوق ودفع ثمن المستوردات بشيكات مصرفية من حساباته العالقة في المصارف.
- ضعف الرقابة الجدّية على مخزون الشركات قبل الاستيراد وبعده، وإمكان التلاعب الكبير بالبيانات.
وعليه، من الواضح أنّ الارتفاع الهائل في استيراد النفّط في أعوام الأزمة نتيجة الدعم، سمح للشركات تحقيق أرباح وافرة مستفيدة من عنصرين: سرعة دوران المخزون واستمرار الطلب على المحروقات حتّى في عزّ الانهيار، وهذا ما أدّى إلى توسّع الكثير منها أفقياً وعمودياً. احتمال تهريب المشتقّات إلى الخارج وبيعها بالدولار النقدي في حين أنّ ثمنها كان يدفع بالليرة وعلى السعر المدعوم.
حجّة الشركات
حجّة الشركات لرفضها ضريبة بمفعول رجعي، جاءت في بيان أصدرته، وتمحورت حول أنّ المستفيد الحصري والوحيد من دعم المحروقات، كان المستهلك اللبناني وليس أحد سواه. وأنّ الشركات المستوردة للنفط كانت تلعب فقط دور الوسيط بين الدولة اللبنانية والمستهلك لتنفيذ آلية الدعم التي اعتمدتها الحكومة، ولم تستفد بتاتاً من الدعم. إذ إن المستهلك يشتري المواد بالليرة اللبنانية، والشركات تودع المبالغ بالليرة اللبنانية لدى مصرف لبنان، ومصرف لبنان يحوّل هذه المبالغ إلى الدولار الأميركي (بموجب سياسة الدعم) لكي تتمكن الشركات من إعادة شراء المواد من الخارج، بحيث لا يدخل أي دولار أميركي في حساب الشركات بالاستناد إلى آلية الدعم.
وقد أكّدت الشركات أنّ "لا زيادة على هامش الربح غير الصافي للمستوردين لكي يؤدّي أو يبرر فرض الضريبة الغرامة. كما أنّ إقرار ما يتم تداوله من فرض ضريبة / غرامة استثنائية يؤدّي إلى تدمير القطاع والإغلاق الحتمي. وهو في جميع الأحوال في غير محلّه الواقعي والقانوني والضرائبي والدستوري الصحيح، ويستحيل تنفيذه، وهو يخفي استملاكاً مقنّعاً للشركات المستوردة، وذلك بإصدار تكاليف ضريبية بمبالغ خيالية تفوق قيمة الشركات. إنّ من استفاد من دعم البنزين والديزل أويل والغاز المنزلي هو المستهلك اللبناني مباشرة وحصرًا".
بغضّ النّظر عن كلّ ما سبق، فإنّ في البلد مؤسسات يجب الاحتكام إليها. ولا يجوز أخذ المواطن رهينة برزقه وعمله. خصوصاً في ظلّ تعمّد تغييب وسائل النقل لمصلحة استمرار استهلاك المحروقات. وما من تبرير لكلّ ما يحصل إلّا اشتراك الحكومة والبرلمان مع المستوردين باختراع أزمة لأيام معدودة تنسي المواطنين فظائع الموازنة"، برأي شمس الدين. وهي الموازنة التي خرجت بأرقام غير التي وضعتها الحكومة وعدّلتها لجنة المال. وسيبدأ المواطن بالشعور بقسوتها ابتداء من مطلع الأسبوع المقبل. وعلى سبيل الذكر لا الحصر تكفي الإشارة إلى رسوم الخدمات التي لا تحتاج إلى موازنة إنّما أدرجت، وسيبدأ تطبيقها فور صدور الموازنة، اليوم، في الجريدة الرسمية، ومنها رسوم المياه التي ارتفعت للمتر من 4.2 مليون ليرة إلى 13.2 مليون ليرة".