الشعب الأميركي أصبح أمام لوبيين، الأول يعمل لتوقيف هذه المساعدات إلى إسرائيل والثاني يسعى إلى استمرار هذه المساعدات...
بالآلاف لا بالملايين، اجتاحت المظاهرات الحاشدة الداعمة لفلسطين ساحات أهمّ وأكبر دول العالم، وضمّت أناساً من مختلف الجنسيات والمعتقدات، طالبوا بوقف إطلاق النار في غزّة، رافعين العلم الفلسطيني ومردّدين عبارة "Free Palestine”. فمع كلّ دعوة إسرائيلية أو غربية رسمية لقتل الفلسطينيين وإبادتهم كان العالم يصبح فلسطينياً أكثر وأكثر.
ولم تقتصر الاحتجاجات على مسيرات داعمة لفلسطين، بل ترافقت مع مساءلة عدد من المواطنين الكنديين والفرنسيين والأميركيين لنوّابهم ورؤساء وزرائهم عن سبب دعمهم ووقوفهم إلى جانب إسرائيل في حربها ضدّ غزّة. حيث قام عدد من الناشطين بقطع عشاء رئيس الوزراء الكندي، وسألوه كم طفل فلسطيني يجب أن يُقتل بعد حتى تصوّت لوقف إطلاق النّار في غزة.
كما لاحقت إحدى الناشطات السيناتور جين شاهين، واتّهمتها بتقاضي 500 ألف دولار من جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل مقابل دعمها لعملية الإبادة الجماعية التي تحصل في فلسطين.
وقام العديد من المتظاهرين باقتحام مبنى الكونغرس الأميركي مندّدين بحرب إسرائيل على غزة.
واعترض متظاهرون الجلسة الخاصة للجمعية العامّة في كولورادو للمطالبة بوقف لإطلاق النّار في فلسطين.
أمهات بريطانيات اقتحمن بصحبة أطفالهنّ الرضّع في لندن إدارة أحد المصانع الذي يزوّد إسرائيل بالأسلحة وأطلقن داخل المصنع 100 بالون أسود تخليداً للأطفال الشهداء.
أعداد هائلة لمواطنين "بيض" ويهود
وفي هذا الإطار يلفت، آلان علم الدين، منسق لبنان في "مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة"، في حديثه لموقع "الصفا نيوز"، إلى أنّه "وعلى مدى السنوات الماضية كانت تشهد دائماً دول أوروبا وأميركا الشمالية مظاهرات داعمة لفلسطين إلاّ أنّه ومنذ 3 سنوات، في عهد الشيخ جرّاح (أحد أحياء القس حيث قامت الإسرائيليون بطرد السكان الفلسطينيين من منازلهم ليصار إلى مصادرتها في محاولة لتهويد الحي)، أصبحت هذه التظاهرات مميّزة أكثر، واليوم تحمل هذه التظاهرات طابعاً مختلفاً وأعمق بكثير من قبل. فمن ناحية الأعداد، تخطّت الأخيرة حسب التقديرات الـ10 ملايين شخص، من مختلف الخلفيات، فعلى عكس السنوات الماضية (حيث كانت هذه الاحتجاجات تقتصر على المسلمين والعرب)، برزت أعداد هائلة لمواطنين "بيض" يدعمون القضية الفلسطينية، وليهود أيضا، وهذه الحركات كانت منظّمة، من قبل مجموعات وجمعيات. كما أنّ الوعي اختلف، ونتج عنه تحرّكات لتسكير المترو في نيويورك، واقتحام الكابيتول في العاصمة، بشعار "not in my name " أي رفض تنفيذ الجرائم ضدّ الفلسطينيين باسم اليهود. وهو انتقاد لاذع للأفكار التي تأسست عليها الحركة الصهيونية، والتي تدّعي من خلالها تمثيل اليهود، وأنّ أيّ نضال تحرري ضدها هو معاد للسامية، وعنصري. بينما ما يقوم به اليهود من احتجاجات، يخاصمون من خلاله شرعيّة إسرائيل، ويقولون بالعلن أنّ إسرائيل لا تمثّل اليهود، ويواجهون عمق المزاعم الإسرائيلية، ومن ضدّ إسرائيل ليس ضدّ اليهود، وهي حركة مميزة بعمقها وببعدها السياسي والخطابي".
ويتابع علم الدين "هذه التحرّكات تتجانس مع ما نحاول القيام به بمبادرتنا "مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة" والتي من خلالها نحاول تسليط الضوء على أنّ المشكلة ليست بين العرب واليهود، حيث أنّنا لا نعارض اندماج اليهود بالمجتمعات العربية، بل نعارض استيطانهم للأرض، وإلغاء دولة على حساب إقامة أخرى. فالمشكلة هي بالمشروع السياسي للمستوطنين اليهود، وهو إقامة دولة خاصة لهم، والحلول مكان المجتمع الفلسطيني. وكنّا قد توجّهنا برسالة بعنوان "رسالة إلى حلفائنا اليهود" وقّع عليها أكثر من 14 ألف فلسطيني، ونشكر من خلالها اليهود على جهودهم، وعلى مخاصمتهم للمشروع الإسرائيلي، ونطالبهم بأن يكملوا بخطابهم الداعي لإلغاء أيّ وجود لدولة يهودية مع عدم إلغاء وجود اليهود. كما وقّع أكثر من ألف شخص من مسؤولين سياسيين وصحفيين ومسؤولين إداريين ونقباء غربيين على نداء يتبنون فيه طرح الدولة الديمقراطية الواحدة".
معارضة المنطق الرأسمالي
وأضاف علم الدين "وما قام به بعض المحتجّين ضدّ شركة بلاك روك يؤكّد ارتفاع حجم الوعي عند الشعوب الغربية، حيث فهم الرأي العام أنّ المنطق الرأسمالي الذي له مصلحة ببيع السلاح ودعم إسرائيل هو جزء من المشكلة. حيث أنّ رئيس شركة لوكهيد التي تبيع الأسلحة، قال في إحدى مقابلاته بكلّ وقاحة، "لا تطالبوا بوقف إطلاق النار، لأنّ هناك بعض المشاكل التي لا تحلّ إلا بالسلاح ونحن نستطيع تصميم هذه الأسلحة وهو ما يفيد الناتج المحلّي الإجمالي الخاص بالولايات المتحدة الأميركية. ومن هنا يأتي الهجوم على بلاك روك من ضمن فهم العلاقة بين الرأسمالية والحرب على فلسطين. كما ظهرت فكرة السكّان الأصليين (الفلسطينيين) الذين يدافعون عن أنفسهم بوجه المستعمر (الإسرائيلي)، في مشاركة الهنود الحمر، وأدائهم رقصة أصحاب الأرض بوجه المستوطنين. كما برزت بعض الأحزاب الحاملة لشعارات تحاكي ضرورة بناء دولة فلسطينية وديمقراطية وعلمانية".
أسباب الوعي مباشرة وغير مباشرة
أما عن العوامل التي ساهمت بحالة الوعي، فيقول علم الدين أنّ "العوامل هذه تنقسم إلى قسمين قسم منظم ومقصود وقسم غير منظّم وغير مقود والأخير برز في وصول الأخبار بسرعة من دون تعديل الخبر، ما سمح للأحداث في غزة أن تصل إلى العالم كلّه من دون أن يتمّ التلاعب بالخبر قبل نشره، (من المصدر مباشرة إلى الفرد). كما أنّ العديد من الفلسطينيين اكتسبوا اللغة الإنكليزية مع الوقت ما جعلهم ينشرون تعليقاتهم وتغريداتهم باللغة الإنكليزية واستهدفوا بذلك الرأي العام الأجنبي. أمّا العوامل المنظّمة، فبرزت عبر المنظمات الفلسطينية التي بنت نفسها، وهنا يبرز فضل الـ BDS كما في الجامعات أصبح هناك مجموعات فلسطينية ونوادي تدافع عن القضية الفلسطينية".
وعن حجم تأثير هذه الاحتجاجات، يشير إلى "أنّه وعلى الرغم من أنّها لن تؤثّر مباشرة على سياسات الدول المتّخذة، حيث أنّ تأثير رأس المال على الانتخابات أكبر بكثير من رأي الشعب، إلّا أنّه مما لا شكّ فيه أنّ عدد البيض واليهود والعرب المتظاهرين ضدّ الصهيونية تزايد، وأغلبهم على يسار الحزب الديمقراطي وبالتالي قد يمتنع هؤلاء عن التصويت للديمقراطي ما قد يؤثّر على نتائج التصويت حيث أنّ الانتخابات الأميركية بين الجمهوريين والديمقراطيين غالباً ما تفرق على 1 أو 2 في المئة ما قد يجبر الرئيس الأميركي جو بادين (الديمقراطي) أن يتخذ قرارات ضدّ إسرائيل لضمان الانتخابات وهو ما حصل في عهد الشيخ جرّاح".
وإلى ذلك أعلن "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي في كانون الثاني 2023 أن التغيير في الرأي العام الغربي "يشكّل تهديداً استراتيجيّاً لإسرائيل".
بالأرقام: رقعة الداعمين لفلسطين تتسع
فقد وجدت استطلاعات الرأي لمركز "برتلمان-ستيفستونغ" و"لرابطة مكافحة التشهير" الصهيونية، أن 33% من الألمان و40% من الأميركيين يرون أن معاملة إسرائيل للفلسطينيين مشابهة لمعاملة النازيين لليهود، في حين وجد استطلاع "لمعهد الناخبين اليهود" عام 2021 أن 25% من الأميركيين اليهود يعتقدون أن إسرائيل دولة فصل عنصري "أبارتهايد"، وأن 22% منهم يعتقدون أنّها تمارس التطهير العرقي بحقّ الفلسطينيين. أمّا بين اليهود الأصغر سنّاً، فقد وجد الاستطلاع أن 20% ممن لا يتعدون الـ40 سنة من العمر يعتقدون أن لا حق لإسرائيل في الوجود من الأساس.
سلاح المقاطعة
على المقلب الآخر، وتزامنا مع الاحتجاجات، برزت حركة على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو إلى تعطيل الاقتصاد الأميركي وتعطيل الحكومة الأميركية عبر سحب أكبر عدد من الودائع من المصارف والتوقّف عن دفع الضرائب للحكومة احتجاجاً على تمويل الأخيرة لإسرائيل وتزويدها بالأسلحة لقتل أطفال غزّة.
وفي هذا الإطار يلفت الخبير الاقتصادي أنطوان فرح في حديثه لموقع "الصفا نيوز" إلى أنّ "سلاح المقاطعة الاقتصادية يشبه سلاح العقوبات الاقتصادية التي تعتمدها الكثير من الدول وفعالية هذه الإجراءات ترتبط بعدة عناصر، العنصر الأول بتعلّق بمدى قوّة الجهّة المقاطعة وقدرتها على التأثير على الجهة الي تقاطعها، أمّا العنصر الثاني فيتعلّق بالجهة التي تتم مقاطعتها ومدى حجم اقتصادها وقدرتها على الحصول على بدائل اقتصادية للمقاطعة. ونحن لا نعرف مدى جدية هذه الفيديوهات المنتشرة في أميركا ومدى قدرتها على جذب الناس".
وأجرى فرح مقارنة بين تأثير العقوبات الأميركية على إيران وروسيا، حيث أنّ "إيران تضرّرت اقتصاديا لأنّ اقتصادها ضعيف على الرّغم من أنّ إيران دولة غنية بالنفط والثروات الطبيعية إلّا أنّها تعاني من الفقر على المستوى الشعبي بسبب هذه العقوبات، أمّا مفاعيل العقوبات الامريكية على روسيا فكانت أقلّ بكثير من إيران، لأنّ الاقتصاد الروسي كبير وقادر على الصمود وروسيا لديها القدرة على الاكتفاء الذاتي إلى حدّ ما، كما تملك القدرة على الانفتاح على دول أخرى".
واعتبر فرح أن "هذه الفيديوهات ليست سوى دعوات شعبية أشبه "بتراند" ولن يكون لها أي تأثير كبير أو صغير على الاقتصاد الأميركي".
186 مليار دولار مساعدات أميركية لإسرائيل
من جهته كشف الخبير الاقتصادي الدكتور خلدون عبد الصمد في حديثه لموقع "الصفا نيوز" إلى أن ّ "المساعدات الأميركية لإسرائيل بلغت حتى الـ 2023 حوالي الـ 185.8 مليار دولار، قسّمت على الشكل التالي: 115 مليار دوار مساعدات عسكرية، 34 مليار دولار مساعدات اقتصادية، ومساعدات للقبّة الحديدية والصواريخ بـ 10 مليارات دولار. وأموال الشعب الأميركي من الضرائب هي المموّل الرئيسي لهذه الدفعات وهو ما خلق بلبلة لدى الجمهور الأميركي، الذي اعتبر أنّه بطريقة مباشرة يشارك في تمويل الحكومة الأميركية للجرائم التي تحصل في فلسطين".
وشرح عبد الصمد أنه في "الـ2021 ذهب 59% من المساعدات الخارجية التي تقدّمها أميركا لدول العالم لصالح إسرائيل، فيما القسم الآخر ذهب لجميع الدول الباقية. كلّ سنة تدفع أميركا لإسرائيل 3.3 مليار دولار فقط للتمويل العسكري عدا عن ملايين الدولار من 500 إلى 600 مليون دولار لتطوير أنظمة الدفاع. كما أنّ أرقام الاستهلاك الإسرائيلي من الاقتصاد الأميركي هائلة. وبالتالي اعتبر الشعب الأميركي أنّ الإدارة الأميركية لا تدعم إسرائيل في حروبها فقط، بل تؤذي الاقتصاد الأميركي وتضعف القدرة الاقتصادية للولايات المتحدة".
وقال عبد الصمد أنّه "على الرّغم من وجود 32 ولاية أميركية تطمح لأن تشارك في وقف المساعدات الأميركية لإسرائيل أو تخفيضها عل الأقل، كي لا يتكبّد الاقتصاد الأميركي كلّ هذ التكاليف، برز لوبي آخر يعاقب أيّ شركة تقبل الدخول ضمن هذا النطاق. ما يعني أنّ الشعب الأميركي أصبح أمام لوبيين، الأول يعمل لتوقيف هذه المساعدات إلى إسرائيل والثاني يسعى إلى استمرار هذه المساعدات. وفي الحالتين نحن أمام الحجر الأوّل لمشروع لا شكّ بأنّه وعلى المدى الطويل سيترك أثراً على حجم المساعدات الأميركية لإسرائيل، التي ستنخفض".