أن يتردّد صدى الأزمة اللبنانية في أروقة أعرق المعاهد الاقتصادية ومختبراتها الأكاديمية حول العالم، فهذا أمر متوقع. وذلك بالنّظر إلى حجم المشكلة وفرادتها. أمّا أن يتمّ الاستنتاج من "مختبر جامعة هارفرد للنمو" أنّ الخطط التي وضعتها السلطة اللبنانية، رغم مرور أربع سنوات على الانهيار، "سيئة الإعداد وجمعت على عجل"، فهذه نقطة سوداء جديدة تدمغ في سجل المصلحة المخفية لاستمرار الأزمة. ولعلّ أكثر ما يصدم، اعتبار المختبر أنّ توصيات صندوق النقد، الذي ينتمي إلى نفس المدرسة الاقتصادية للجامعة، "خجولة وغير حاسمة".

بهذه النبرة القاسية صدرت "ورقة سياسات حول الأزمة المالية في لبنان وخريطة طريق للتعافي" من مختبر هارفارد للنمو. والمختبر هو الذراع البحثي للاقتصاد الكلّي الذي يحظى بتقدير كبير في كلّية كينيدي للإدارة الحكومية.

التعثّر سبب المشكلة!

تعتبر "الورقة" أنّ السبب الجذري للأزمة المالية والنقدية، كان تخلّف الحكومة عن سداد التزامات الدين العام (التعثّر). إذ أدّت هذه الخطوة إلى تدافع المودعين على البنوك خوفاً على ودائعهم. والأخيرة، تم استثمارها بكثافة في سندات الدين السيادية. الأمر الذي أدخل الاقتصاد بحلقة مفرغة أدّت إلى انهيار الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 38 في المئة بالقيمة الحقيقية. وفقدان الليرة التي تمّ تثبيتها مقابل الدولار عام 1997 أكثر من 98 في المئة من قيمتها. وأصبحت الديون الحكومية ومطالبات البنوك التجارية على مصرف لبنان تمثّل أكثر من سبعة أضعاف النّاتج المحلي الإجمالي الحالي. كما انهارت الخدمات العامّة بالتوازي.

وتختصر الورقة الانهيار بأنّه عبارة عن مجموعة مركّبة من الأزمات: أزمة ديون، وأزمة مصرفية، وأزمة عملة، وانهيار النمو. وبعد أربع سنوات على الانهيار، ما زال حلّ هذه الأزمة بعيد المنال. وكلّ يوم يمرّ يزيد من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المواطنون.

هذا التوصيف الإشكالي لسبب الأزمة، والذي لا يوجد لغاية اللحظة إجماع وطني عليه، سيكون المنطلق لرسم خريطة الحلّ من وجهة نظر معدّي الورقة بقيادة مؤسس ومدير مختبر النمو بجامعة هارفارد البروفيسور ريكاردو هوسمان. الذي شغل منصب باحث رئيسي لأكثر من 50 مبادرة بحثية متعلّقة بسياسة التنمية واستراتيجيات النمو.

الدولرة الكاملة

تقترح الورقة الانتقال في أقرب وقت ممكن إلى نظام نقدي يقوم على الدولرة الكاملة، Full Dollarization باعتبارها البديل الأفضل. وذلك بالمقارنة مع البديل الأكثر قابلية للتطبيق المطروح، وهو: سعر صرف معوّم مُدار داخل نظام مصرفي يعتمد بشكل كبير على الدولرة، إلى جانب مصداقية سياسية محدودة. ففي الحالة اللبنانية تحديداً، فإنّ فوائد الدولرة تفوق عيوبها. إذ من شأن الدولرة الكاملة أن تضع حدّاً للتضخّم المفرط في لبنان، بسرعة وفعالية. وللمثال فقد انخفض التضخّم في الإكوادور، من 96.1 في المئة في عام 2000 إلى 2.7 في العام 2004، في أعقاب الدولرة الكاملة للاقتصاد. ومنذ ذلك الحين، لم تشهد الإكوادور تضخّماً يتجاوز 10 في المئة. في حين أنّ نسبة التضخّم المعترف بها في لبنان اليوم هي بحدود 295 في المئة وتعدّ الأعلى عالمياً بعد فنزويلا. علاوة على ذلك، يمكن أن تلعب الدولرة بحسب "الورقة" دوراً في تسهيل الاستثمار الأجنبي المباشر والتبادلات الاقتصادية، خاصّة مع دول الخليج حيث ترتبط معظم العملات بالدولار.

ما يسهل الانتقال إلى نظام الدولرة الكاملة بحسب الورقة هو التسعير شبه الشامل بالدولار، وتقاضي معظم الرواتب بالدولار حتّى بالنسبة إلى القطاع العام. وعليه فإنّ كلّ المبادلات والمعاملات التجارية وغير التجارية تتم بالدولار. وهو الأمر الذي لم يفقد الليرة دورها كمخزن للقيمة، إنّما كوسيلة للتبادل أيضاً. ونظراً للانخفاض الكبير في قيمة العملة وانخفاض الطلب على الليرة، فإنّ استبدال العملة المحلية المتداولة بالدولار الأميركي يمكن تمويله. ومن غير المرجّح أن يتسبّب في أيّ نوع من الانكماش. بل العكس فإنّ من شأن هذا التحوّل تحفيز التجارة وتخفيض نسب الفائدة.

استراتيجية شاملة لإعادة الهيكلة المالية

المشكلة الثانية التي لا تقلّ تعقيدا عن سعر الصرف، تتمثّل في وجود فجوة في مصرف لبنان قدّرتها الورقة بـ 76 مليار دولار، هي عبارة عن ودائع المصارف المتبخّرة في المركزي. ولحلّ هذه الأزمة تقترح الورقة تحويل هذا المبلغ إلى سندات دين على الدولة يحملها مودعو المصارف. وبذلك، ستحصل الحكومة على رأس مال مصرف لبنان بحكم الأمر الواقع، وسترث "نصيب الأسد" من أكبر دين للبنك المركزي، مما يحسّن وضع أسهم مصرف لبنان من سالب بقيمة 61 مليار دولار أميركي تقريباً إلى موجب بقيمة 14 مليار دولار أميركي. وعليه ستتمكّن المصارف من التعويض على أصحاب الودائع التي تتراوح بين 100,000 إلى 150,000 دولار أميركي تقريباً. وسوف تتحوّل حصّة كبيرة من الودائع المصرفية الضخمة سوف إلى مطالبات على الحكومة، وليس البنوك، الأمر الذي سيؤدّي إلى تقليص حجم النظام المصرفي الإجمالي بنحو الثلثين.

 

إعادة هيكلة الدين العام

بعد استبدال الودائع بالدولار في البنوك بالسندات أو شهادات الإيداع، سيكون لدى لبنان ديناً بحوالي 107 مليار دولار (76 مليار دولار سندات الودائع + 31 مليار دولار اليوروبوندز) ويشكّل هذا الرقم 620 في المئة من النّاتج المحلي الحالي، فكيف سيتمّ التعامل معه؟

تقترح الورقة إعادة هيكلة الدين العام من خلال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على إطار مالي كلّي معقول، يأخذ في عين الاعتبار مسار النمو في لبنان، والأرصدة المالية، ونسبة الاقتطاع "هيركات" ومتطلّبات الاقتراض الإضافية، ومستوى مستدام من إجمالي الدين، لترسيخ عملية إعادة الهيكلة. ومن السيناريوهات المطروحة نعرض التالي:

في حال تحقيق فائض بنسبة 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ــ وهو ما لم تتمكّن البلاد من تحقيقه قط ــ وفارق في نمو الفائدة بنسبة 4 في المئة، أي أقلّ من ذلك الذي لوحظ في الفترة 2000-2005 وفي الفترة 2013-2018، من شأنه أن يؤدي إلى دين مستدام قدره 75 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا افترضنا على نحو متفائل أنّ التعافي سوف يعني ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي من مستواه الحالي البالغ 16 مليار دولار إلى 35 مليار دولار، فإنّ هذا يعني أنّ إجمالي الدين سوف يحتاج إلى نحو 26 مليار دولار في نهاية البرنامج. وبما أنّه سيتعيّن خدمة القروض الجديدة (حوالي 8 مليارات دولار أميركي) بالكامل، فيجب ربط الديون المعاد هيكلتها بمستوى 18 مليار دولار أميركي (26 إجمالي الديون ناقص 8 ديون جديدة). وعليه تكون قيمة الهيركات الواجب وضعها لخفض معدّل الدين إلى هذا المستوى 89 مليار دولار أميركي، ونسبتها 83 في المئة.

وعليه تنخفض نسبة الهيركات كلّما زاد الناتج المحلّي الإجمالي وتغيرت نسبة الدين ومن الممكن أن ينخفض الهيركات إلى 65 في المئة على الدين إذا وصل حجم الناتج إلى 45 مليار دولار وبلغت نسبة الدين إلى الناتج 100 في المئة.

إذاً، لا خيارات سهلة وغير مكلفة أمام الاقتصاد اللبناني بحسب ما يستنتج من "الورقة". إلّا أنّ هذه الخيارات هي ضرورة لإعادة إطلاق النمو، والنهوض. وإلّا فإنّ الاقتصاد اللبناني سيبقى يراوح في أزماته التضخّمية الانكماشية إلى أجل غير مسمّى. خصوصاً في حال اعتماد نظام الصرف المعوّم وعدم توزيع الخسائر بشكل منطقي. ومن الضروري بحسب الورقة اعتماد الدولرة الكاملة وتحميل الدين للدولة وإعادة هيكلته وأخذ المساعدة المالية والتقنية من صندوق النقد ورفد الخزينة بالمزيد من الأموال من خلال الإصلاح الضريبي، ورفع نسبة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15 في المئة.