تبقى مسألة الهجرة هي المحرك الرئيسي لليمين الشعبوي الأوروبي. وكانت أيرلندا آخر بلد يلتحق بهذه الظاهرة...
أتى تصدُّر حزب الحريّة اليميني المتطرّف بزعامة غيرت فيلدرز الانتخابات التشريعية الهولندية قبل أكثر من أسبوع، بمثابة تأكيد آخر على صعود التيار الشعبوي في أوروبا، مع كلّ ما ينطوي عليه من مخاطر تغيير المشهد السياسي ليس في هولندا فحسب، وإنّما في القارّة عموماً.
فيلدرز، الذي حصل حزبه على 37 مقعداً من أصل 150 مقعداً يتألّف منها مجلس النّواب، لا يعني بالضرورة أن يكون هو الشخص الذي سيقع عليه الخيار لتأليف الحكومة الجديدة. لكن في الوقت نفسه لا يمكن قيام ائتلاف حكومي من دون أن يكون حزب الحريّة الشريك الرئيسي فيه والمحرك الأساسي لسياساته. ومعلوم أنّ تشكيل الحكومات في هولندا يستغرق وقتاً طويلاً من المفاوضات الشاقّة بين الأحزاب. الحكومة المستقيلة برئاسة مارك روته مثلاً استغرقت ولادتها 270 يوماً. لكنّها عمرت 13 عاماً لتصير أكثر الحكومات استقراراً في هولندا في العقود الأخيرة.
منذ عقدين، وحزب الحرّية يرفع في حملاته الانتخابية شعاراً رئيسياً وهو الهجرة. لكن ما الذي تغيّر حتّى يحوز الحزب هذه المرّة على المركز الأوّل. لا شكّ في أنّ التطوّرات الدولية والحرب الروسية-الأوكرانية، لعبت دوراً في هذا المجال. إذ وصل إلى هولندا العام الماضي 400 ألف مهاجر، الكثيرون منهم أتى من أوكرانيا. ومنذ عام 2016 تستقبل هولندا 200 ألف مهاجر سنوياً. وهذا ما شكّل عبئاً مالياً كبيراً في بلد معروف بسخائه في التقديمات الاجتماعية، فضلاً عن أزمة في سوق الإسكان.
وهذا ما جعل فيلدرز يرفع مسألة الهجرة إلى مستوى الحرب الثقافية، وسط تشكيك الناخبين بأنّ الحكومة لا تنتهج سياسة سليمة على صعيد دمج المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقدم فيلدرز نفسه على أنّه المنقذ لهولندا من هذه المشكلة.
وبطريقة غير مباشرة، خدمت أحزاب اليمين والوسط واليسار الأخرى برنامج فيلدرز، عندما ركّزت هي الأخرى على مسألة الهجرة. حتّى أنّ روته قدّم استقالته بسبب عدم توافق الائتلاف الحاكم على سياسة موحّدة حيال هذه المسألة. والمسؤولة في حزب الشعب من أجل الحرية والديموقراطية ديلان يسيلغوز-زيغيروس التي كانت مرشّحة لخلافة روته لو فاز الحزب المحسوب على يمين-الوسط، بصدارة النتائج، اتّخذت أيضاً موقفاً متشدداً حيال المهاجرين، علماً أنّها هي نفسها ابنة عائلة مهاجرة من تركيا. وهي السياسية الوحيدة حتى الآن التي أبدت ميلاً للدخول في ائتلاف مع فيلدرز.
فيلدرز الشخصية المثيرة للجدل والملقّب بـ"ترامب هولندا" يعيش بحماية الشرطة منذ اغتيال المخرج الهولندي تيو فان غوخ على يد إسلامي متشدّد عام 2004، معروف عنه مواقفه المناهضة للهجرة وللاتحاد الأوروبي وللإسلام. لكنّه منذ فوزه في الانتخابات بدأ يضفي مسحة من الاعتدال على هذه المواقف، معلناً إستعداده ليكون رئيس وزراء "لكلّ الهولنديين".
المرونة المستجدّة في نبرة فيلدرز، تثير احتمال أن يقتدي برئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني زعيمة حزب "أخوة إيطاليا" اليميني المتطرف، التي عدّلت الكثير من مواقفها بعد وصولها إلى الحكم، لا سيّما لهجة العداء للاتحاد الأوروبي، ونحت أكثر نحو اليمين التقليدي.
في صلب البرنامج الانتخابي لفيلدرز، كان إجراء استفتاء على خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي، لكن مثل هذه الخطوة قد لا تلقى قبولاً من الشركاء المحتملين في الائتلاف الحكومي المقبل، وتالياً سيضطر فيلدرز إلى صرف النّظر عن المسألة.
وتبقى مسألة الهجرة هي المحرك الرئيسي لليمين الشعبوي الأوروبي. وكانت أيرلندا آخر بلد يلتحق بهذه الظاهرة، عندما نزلت مجموعات من اليمين المتطرّف إلى شوارع دبلن الأسبوع الماضي وأثارت أعمال شغب واشتبكت مع الشرطة احتجاجاً على سياسة الهجرة، التي تتبناها حكومة ليو فارداكار زعيم حزب "فاين غايل" المحسوب على التيار الليبرالي المحافظ.
تمضي أوروبا نحو الشعبوية التي يجمعها قاسم مشترك وهو معاداة الهجرة، بينما تختلف مواقف الشعبويين من النزاع الروسي-الأوكراني
وإلى الدّول التي يحكمها اليمين المتطرّف مثل إيطاليا والمجر، يشهد اليمين المتطرّف صعوداً مستمرّاً في دول أخرى. واستطلاعات الرأي تُظهر تقدماً لحزب "البديل" في ألمانيا. وحزب التجمّع الوطني في فرنسا بزعامة مارين لوبن مرشح للفوز بصدارة الانتخابات للبرلمان الأوروبي في حزيران المقبل، بعدما كانت لوبن حصدت أكثر من 40 في المئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية ضد الرئيس إيمانويل ماكرون العام الماضي. وحزب الحريّة في النّمسا يحوز على 30 في المئة في الاستطلاعات التي ترجح عودته بقوة إلى أيّ ائتلاف حكومي. وفي بلجيكا يتقدّم حزبان شعبويان الاستطلاعات. وفي بولندا، حلّ حزب العدالة والقانون اليميني المتطرف أولاً في الانتخابات التشريعية التي جرت في تشرين الأول الماضي، لكنّه خسر معركة تأليف الحكومة لمصلحة ائتلاف من أحزاب اليمين والوسط، والرئيس أندريه دودا محسوب على التيار القومي المتشدّد ويحظى بدعم حزب العدالة والقانون.
ويقابل شعبوية اليمين المتطرّف، شعبوية يسارية اكتسحت الانتخابات التشريعية في سلوفاكيا بزعامة روبرت فيكو، المعروف بمواقفه المتعاطفة مع روسيا. وكان أوّل قرار اتّخذه رئيس الوزراء الجديد هو وقف المساعدات العسكرية التي كانت تقدمها سلوفاكيا لأوكرانيا.
هكذا تمضي أوروبا نحو الشعبوية التي يجمعها قاسم مشترك وهو معاداة الهجرة، بينما تختلف مواقف الشعبويين من النزاع الروسي-الأوكراني، إذ يعارض رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان وفيكو وفيلدرز تقديم مساعدات عسكرية لكييف، فيما ميلوني من أشد المتحمسين لها.
وخارج الإتحاد الأوروبي، كان رئيس الوزراء البريطاني سابقاً بوريس جونسون، ملهماً للشعبويين في أوروبا بسياساته المعادية للهجرة. ومنه ابتكرت وزيرة الداخلية المقالة سويلا بريفرمان "الحل الرواندي" لمعالجة مشكلة اللجوء، بحيث تعمد الحكومة إلى ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا باعتبارها "بلداً آمناً".
وعلى رغم أنّ بريفرمان المعروفة بمواقفها المتشدّدة حيال المهاجرين، باتت خارج الحكومة البريطانية برئاسة ريشي سوناك البعيد عن شعبوية جونسون، فإنّ وزير الداخلية البريطاني جيمس كليفرلي الذي خلف بريفرمان، لا يزال يبحث في كيفية تطبيق "الحل الرواندي". والخشية، هو أن تستلهم بلدان في الإتحاد الأوروبي هذا "الحل" لمواجهة معضلتي الهجرة واللجوء.
صعود اليمين المتطرّف في أوروبا، قد يكتسب مزيداً من الزخم إذا ما فاز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2024. ويحذّر الكاتب جانان غانيتش في مقال بصحيفة "الفايننشال تايمز" البريطانية، من أنّ الأخطر في الأمر هو أنّ شعبوية الولايات المتّحدة قائمة على شخص ترامب تحديداً، وقد تزول مع رحيل الرجل، لكن ماذا عن شعبوية أوروبا القائمة على فكرة الحصار الديموغرافي والثقافي.
لعلّ الأدهى من كلّ ذلك، أنّ أحزاب اليمين التقليدي وكي لا تخسر شعبيتها، بدأت بتبني الكثير من الأفكار الشعبوية في ما يتعلق بمسألة الهجرة واللجوء، وفرنسا والدانمارك مثال على ذلك.