عادت قصّة البطيخ إلى الواجهة من جديد هذا العام، بعد أن أصدر وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، في كانون الثاني، تعليماته للشّرطة الإسرائيلية بإزالة الأعلام الفلسطينية من الأماكن العامة

اجتاحت في الأشهر الأخيرة رموز وصور البطيخ مواقع التواصل الاجتماعي، وكلّ الصفحات الداعمة للقضية الفلسطينية. حتّى أنّ بعض المؤثرين على "تيك توك" صنعوا فلاتر على شكل ألعاب بطيخ، تعود أرباحها لدعم أطفال غزّة، وتزويدهم بالمواد الغذائيّة وغيرها من الأساسيات ليتمكّنوا من الصمود.

وأمام رموز البطيخ المنتشرة في كلّ مكان، أسئلة عديدة طرحت حول العلاقة بين البطيخ والقضية الفلسطينية، وكيف أصبحت هذه الفاكهة رمزاً سياسياً يستخدمه كلّ مؤيد وداعم للقضية.

قصة البطّيخ عمرها 56 عاماً

قصّة البطيخ وفلسطين ليست حديثة العهد بل تعود إلى العام 1967، عندما سيطرت إسرائيل على غزّة والضفة الغربية، وحظرت حمل الرموز الوطنية مثل العلم الفلسطيني وألوانه في جميع أنحاء الأراضي المحتلّة. وبما أنّ حمل راية البلاد أصبح جريمة، بدأ الفلسطينيون برفع شرائح البطيخ بدلاً من العلم، كشكل من أشكال الاحتجاج. لكون ألوان هذه الفاكهة تتوافق وألوان العلم الفلسطيني، وهي الأحمر والأخضر والأسود.

ومنذ ذلك الحين، واصل الفنّانون إنتاج أعمال فنية تستخدم البطيخ تعبيراً عن تضامنهم مع الفلسطينيين. ومن أشهر الأعمال الفنيّة لوحة للفنان خالد حوراني. ففي عام 2007 رسم حوراني لوحة لكتاب حمل عنوان "الأطلس الذاتي لفلسطين"، وكانت اللوحة عبارة عن شريحة بطيخة حمراء. وسافرت اللوحة التي تحمل عنوان "قصة البطيخ"، حول العالم، واكتسبت شهرة أكبر خلال الصراع بين إسرائيل وحماس في أيار 2021.

وعادت قصّة البطيخ إلى الواجهة من جديد هذا العام، بعد أن أصدر وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، في كانون الثاني، تعليماته للشّرطة الإسرائيلية بإزالة الأعلام الفلسطينية من الأماكن العامة، زاعماً أنّ التلويح بها يعدّ "دعماً للإرهاب" لتظهر صور البطيخ خلال المسيرات المعارضة لإسرائيل في فلسطين وجميع دول العالم، من جديد.

التحايل على خوارزميات التواصل الاجتماعي

وهكذا انتقل استخدام البطّيخ من أرض الواقع إلى العالم الافتراضي، كجزء من جهود الفلسطينيين وداعمي القضية الفلسطينية للالتفاف على الرقابة وخوارزميات تعديل المحتوى، بعد سلسلة عمليات التضييق التي لحقت بداعمي القضية الفلسطينية على مواقع التواصل الاجتماعي. فاستخدم الناشطون البطيخ كرمز للعلم الفلسطيني للالتفاف على الحظر في العالم السيبراني، حيث يحاول الفلسطينيون وغيرهم من الذين لا يثقون بمنصات التواصل الاجتماعي ويخشون الرقابة الإسرائيلية الإلكترونية، إلى التحايل على خوارزميات وأساليب تعديل المحتوى.

لماذا استخدام الفاكهة؟

وفي هذا الإطار، يلفت غازي زامباقجيان، خبير وباحث في تاريخ المجتمعات، في حديثه لموقع "الصفا نيوز"، إلى أنّه "لفهم لماذا بعض الأشخاص أو فريق معيّن أو حزب ما، أو بلد أو مجموعة، أو حتّى مجتمعات تلجأ إلى استخدام الفاكهة أو الخضار أو الشتول، لإيصال رأيهم أو فكرهم السياسي أو أيّ رسالة يرغبون بنقلها، قد يكون النموذج الفلسطيني أفضل نموذج لتفسير هذه الظاهرة. ففي الوقت الذي تستخدم فيه الفاكهة بالدّرجة الأولى لغاية الأكل ولا علاقة لها في عالم السياسة والحقوق، إلّا أنّ هناك بعض النقاط المشتركة بين القضايا السياسية والفاكهة أو الخضار. وهذه النقاط هي اللون والشكل. فاللجوء إلى استخدام البطيخ في القضية الفلسطينية، ارتبط بالألوان المشتركة بين ألوانه وألوان العلم الفلسطيني وهي الأحمر والأخضر والأسود. أمّا سبب عدم استخدام العلم بنفسه، فيعود إلى القمع المفروض على حرية تعبير أيّ فرد داعم للقضية الفلسطينية. ما يجعل هؤلاء يلجؤون إلى رموز معينة تحاكي رسالتهم وتسمح بإيصالها بطرق قانونيّة، دون أن تعرّضهم للملاحقة القانونية، أو إلى أيّ نوع من أنواع الـحظر، كأن يتمّ على سبيل المثال تجميد حساب صاحب المنشور أو توقيف منشوراته أو الحدّ من انتشارها. وهكذا استبدل الفلسطينيون العلم بالبطيخ، خصوصاً وأنّ العلم الفلسطيني ممنوع من أن يرفع في الأراضي المحتلّة، إلّا أنّه ما من قانون يمنع رفع البطيخ، وبالتالي لا يمكن لسلطات الاحتلال قمعه".

الفكرة تعود للعصور الوسطى

ويضيف زامباقجيان "إذا هذه الوسائل التي تستخدم من قبل بعض الشعوب، عبر اعتماد أنواع فاكهة معينة، ولصقها بفكرة أو قضية ما، تستخدم بالأساس، لحماية حقّهم بحرّية الرأي والتعبير. واستخدام الفاكهة لإيصال أفكار معيّنة ليس بجديد بل تعود جذوره لأقدم العصور، حيث هناك شعوب ومجتمعات أخرى استخدمت الفاكهة والخضار للتعبير عن رأيها بقضية ممنوعة أو مقموعة. ففي عهد النهضة في إيطاليا في القرن السابع عشر، كان الفنانون والرسامون كمايكل أنجلو يلجؤون إلى استخدام الفاكهة للتعبير عن أفكار جنسية، في الوقت الذي كان الحديث فيه عن الجنس ممنوع. وبالتالي كان الرسّامون يختارون بعض الفاكهة والخضار التي تتشابه أشكالها وشكل جسد كلّ من المرأة والرجل لإيصال أفكارهم، بطريقة لا تعرّضهم للملاحقة القانونية".

القوة في لون الفاكهة

ويتابع زامباقجيان "وغالباً ما كانت تستخدم الفاكهة لرمزية ألوانها في العمل السياسي، ومن أشهر الأمثلة التي تحاكي واقعنا في لبنان، استخدام التيار الوطني الحرّ لفاكهة البرتقال، لكون لونها يتجانس ولون شعار الحزب. كما أنّ معظم الثورات التي حدثت حول العالم في أواخر 20 سنة تم استخدام الفاكهة فيها، كثورة البرتقال في أوكرانيا، والثورة البنفسجية في أرمينيا، حيث تمّ اعتماد رموز الفاكهة والزهور التي تحمل نفس لون شعار الثورة في المناشير المستخدمة للتعبير عن الرأي. وحتى في تونس تمّ استخدام مصطلح ثورة الياسمين على ثورات الربيع العربي".

ويعتبر زامباقجيان أنّه "لا شكّ بأنّ لهذه الرموز تأثير كبير في إرسال الفكرة المراد التسويق لها، حيث تخلق هذه الرموز نوعاً من الحشرية عند شعوب أخرى لفكّ شيفرتها وفهم دلالتها، كما توصّل رسالة للمستعمر أنّ هذا الشعب شعب حرّ وسيلجأ دائما إلى طرق جديدة ومبتكرة للتعبير عن رأيه، وليس بإمكان أيّ جهة أن تقمع حرية التعبير. وأحد الشعوب الذين حققوا نتائج إيجابية بفضل الرمز الذي اختاروه بتمثيل ثورتهم، هم الجورجيون، حيث قام الشعب خلال الثورة الوردية التي حصلت في جورجيا باستخدام الورد، لما لهذه الوردة من دلالة قوية، حيث أنّها ترمز إلى الحب والسلام، وإلى الرغبة لإحداث ثورة سلمية".

في المحصّلة، لا شكّ بأنّنا وعلى الرّغم من كلّ التطور الذي نواكبه على صعيد التشريعات والتكنولوجيا، لا زلنا نعيش في عالم يقمع الحريات، لا بل وكلما تطوّر العصر، كلّما زادت أساليب القمع، إلّا أنّ ما يميز عصرنا هذا عن العصور السّابقة، أنّ أساليب القمع آنذاك كانت على العلن، فيما اليوم أصبحت في الخفاء، توهمنا بشعارات الحريات والتعبير فيما هي تراقبنا وتحظرنا وتحدّ من انتشارنا دون علمنا، ما يدفع البعض إلى عدم الاستسلام واللجوء دائما إلى طرق مبتكرة وجديدة لإيصال صوته، ولو كان ببطيخة. لتتحوّل بذلك الفاكهة الأشهر عربياً إلى أداة للمقاومة، فتدخل على خطّ المواجهة مع الاحتلال وتحجز لها موقعا في الجبهات الأمامية.