تقدّم عدد من الصحافيين العاملين في مؤسسات أجنبية عالمية باستقالاتهم في الأسابيع الماضية احتجاجاً على سياسة تحرير مؤسساتهم...

على الرّغم من الزخم والدعم اللذين تلقاهما الرواية الاسرائيليّة للأحداث من قبل المؤسسات الإعلاميّة الغربيّة، إلاّ أنّ صوت الحقّ والحقيقة الفلسطينيّة كان أعلى، وتمكّن من خلق رأي عام عالمي، عربي وأجنبي، داعماً للقضيّة الفلسطينيّة إلى آخر نفس. ما أدّى إلى خلق شرخ حقيقي في أروقة المنظّمات الدوليّة والحكومات العربيّة والأجنبيّة، وصلت أصداؤها إلى الكونغرس الأميركي نفسه والحكومة الإسرائيليّة.

استقالات بريطانية وأميركية من مناصب سياسية

وموجة الدّعم طالت رؤساء أحزاب، وشخصيات سياسيّة وحتّى صحافيين. حيث لم يتردّد الكثيرون في التضحية بأغلى ما يملكون في سبيل دعمهم للقضية، ولو على حساب وظائفهم ومصدر رزقهم.

ومن أشهر الاستقالات الغربيّة في كل من أميركا وبريطانيا، نذكر استقالة كريج مخيبر، مدير مكتب نيويورك في مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، وجوش بول، مدير في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية في الخارجية الأميركية، ولارا فريدمان، مسؤولة في وزارة الخارجية الأميركية ومرجعها في الأمور المتعلقة بفلسطين وإسرائيل، وبادي كوسجريف، الرئيس التنفيذي والمؤسس لقمّة الويب، إلى جانب استقالات جماعية في حزب العمال البريطاني بسبب دعمه لإسرائيل.

وفي الإطار نفسه، تقدّم عدد من الصحافيين العاملين في مؤسسات أجنبية عالمية باستقالاتهم في الأسابيع الماضية احتجاجاً على سياسة تحرير مؤسساتهم، الدّاعمة للرواية الإسرائيلية على حساب قتل وتزوير وقمع الرواية الفلسطينية.

استقالات بالجملة لصحافيين عرب

ومن أبرز هؤلاء نذكر الإعلامي التونسي في قناة الـ"بي بي سي" بسام بونني الذي رفض أن يبقى شاهد زور، فاستقال من منصبه في القناة بتاريخ 18 تشرين الأول، بعد تقارير للأخيرة تبرّر قصف إسرائيل لمستشفى المعمداني بذريعة اختباء عناصر لحماس فيها. ونشر على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي نصّاً جاء فيه "تقدمت صباح اليوم باستقالتي من هيئة الإذاعة البريطانية لما يحتّمه عليّ الضمير المهني".

وعلى غرار بنني تقدّم الصحافي اللبناني في قناة الـ"بي بي سي" العربية إبراهيم شمص باستقالته بعد يوم من استقالة بنني، معلنا ذلك على صفحاته في العالم الافتراضي، حيث قال "اليوم، تقدّمت باستقالتي من بي بي سي عربي، احتجاجاً على تغطية الحرب، ولا أحمل في قلبي إلّا الودّ للزملاء الكرام".


ولاقى الإعلام التونسي ثورة استقالات لصحافيين تونسيين من مؤسسات أجنبية، وآخرهم، استقالة الصحافيتين أماني الوسلاتي وأشواق الحناشي من شبكة "كنال +" الفرنسية.

وقد سبقت جميع هذه الاستقالات، استقالة الصحافي التونسي عيسى زيادية، والذي كشف عن استقالته في منشور على صفحته على فايسبوك قال فيه "أعلن انتهاء علاقتي المهنية رسمياً بالموقع بعد أن تقدمت باستقالتي يوم 17 أكتوبر الحالي لأسباب مهنية وقناعات شخصية".

دعم فلسطين بالظاهر وإسرائيل في الخفاء

وإلى ذلك، تواصل موقع "الصفا نيوز" مع زيادية، للاستفسار أكثر عن الأسباب التي دفعته إلى الاستقالة ورأيه في حملة الاستقالات المتتالية لعدد من الصحافيين، احتجاجاً على سياسات مؤسساتهم.

وفي هذا الإطار وفي حديث خاص لموقع "الصفا نيوز" قال الصحافي عيسى زيادية: "في الأشهر الستة الماضية كنت أعمل على تحقيق استقصائي حول شخص تونسي يهودي اسمه باتريك سيباك وشريكيه الأوّل تونسي يهودي وآخر مستثمر هولندي، يمتلكون أكبر مجمّع بارات في تونس. وتزامن موعد نشر التقرير مع حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تدعو لمقاطعة مجمّع نوادي السهر التابعة لسيباك، وتتناول مقالا لسيباك نشر في الـ 2005 يقول فيه أنّه كيهودي يحلم بالعيش في دولة إسرائيل، وفي يوم ما بعد أن يتقاعد سيحوّل كلّ ثروته لإسرائيل. لأتفاجأ برفض المؤسسة نشر التحقيق بحجّة أنه لا تزال هناك أدلّة ناقصة ويحتاج إلى المزيد من الوثائق، في الوقت الذي لم يكن ينقص التقرير أيّ تعديلات وكان مدعوماً بأكثر من 50 وثيقة حكومية وخاصّة".

ويضيف زيادية "تمّ سحب الترخيص من المجمّع من قبل الحكومة التونسية، وعلى الرغم من ذلك اعتبر البعض أنّ تحقيقي يأتي في سياق التضييق على اليهود، إنّما في الواقع هو يكشف تجاوزات بالوثائق والأدلّة من جهات حكومية ورسمية".

وضع الصحافيين العرب هشّ

وتابع زيادية "وضعت في موقف سيئ، حيث كان هناك استخفاف بعملي، والطريقة التي تلقّيت فيها الرفض كانت عن طريق بريدي الإلكتروني علماً أنني متواجد في المؤسّسة يومياً وأتنقّل في مكاتبها، حيث كان بإمكانهم إعلامي بقرارهم مباشرة. أمّا ذريعة عدم نشر القصّة لعدم كفاية الأدلّة فمهينة بحقّي، في الوقت الذي كنت أترأس فيه قسم التحقيقات في هذه المؤسسة وأملك أكثر من 6 سنوات خبرة في مجال إعداد هذه التقارير وعملت في المؤسسة لأكثر من 3 سنوات. وبالتالي حجّتهم واهية، فلو كان التقرير تنقصه أدلة ما كنت قدّمته. علماً أنّ ومن اتّخذ القرار كان في منصب إداري، وهنا يعود السؤال الى مدى حق تدخّل الإدارة في العمل التحريري! إلّا أنّني لم أسكت عن هذا التصرّف غير المقبول وتقدّمت بشكوى إلى نقابة الصحافيين بحق ّالمؤسسة وأنا بانتظار النتيجة".

ورأى الصحافي التونسي أنّه "في الوطن العربي وتونس خصوصاً، الوضعية المهنية للصحفيين هشّة جداً، حيث أنّ متوسط الأجور لا يتعدى الـ 300$ في الشهر وأنا أعرف العديد من الصحافيين الذين لا يقبلون ما يحصل في فلسطين إلّا أنّهم يخشون الاستقالة خصوصاً في هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة. فقرار الاستقالة صعب وتحديداً إذا كان الصحافي في بداياته، ولكن إذا كان صاحب خبرة ومشهور أو يستلم منصب كبير فستكون هذ الخطوة أسهل عليه، لكونه قد بنى اسماً وشهرة تساعدانه على إيجاد فرص عمل أسرع وأسهل".

تبعات وانعكاسات سلبية للاستقالة

وأشار إلى أنّ "قرار الاستقالة يؤثّر بشكل كبير على فرص الصحافي بالحصول على عمل في مؤسسات أخرى. حيث قد تنقل الاستقالة عنه صورة بأنّه يحبّ المشاكل، أو أنّه قد يفضح المؤسسة التي يعمل فيها في حال وقع الخلاف. كما أنّ المواجهة تشتدّ صعوبة عندما يكون هناك مواجهة بين مؤسّسة ضدّ شخص واحد. فللأولى شبكة علاقات قوية وتربطها مصالح مع جهّات عدّة منها مؤسسات ودول ومسؤولين وقضاة ومحامين. خصوصاً إذا كانت المؤسسة معروفة وكبيرة. وهو ما يؤكّد أنّ الضغوطات التي يتعرّض لها الصحافيين قد تأتي من أيّ مؤسسة إعلامية بغضّ النظر إذا ما كانت مؤسسة مرموقة أم لا".

"وأعتبر نفسي محظوظا"، يقول زيادية، "حيث كان عندي فرصاً أخرى ومقترحات وعروض من مؤسسات أخرى، ما سهّل عليّ عمليّة اتخاذ القرار، على عكس زملاء آخرين لا يملكون أفق واضحة أو خيارات وتربطهم مسؤوليات مالية. فالموضوع مرتبط بالعامل المادّي حيث أنّ هناك العديد من الزملاء الذين لا يستطيعون البقاء دون وظيفة ولو لأسبوع واحد".

ولا ينكر أنّ "هناك صراع يعيشه الصحافيون اليوم ونقاش طويل حول ما إذا على الفرد أن يحاول التأثير في هذه المؤسسات أو الخروج منها. فبرأي في المؤسسات الكبيرة التي تتبنى سياسات تعبّر عن دول معينة يصعب التغيير فيها. وللأسف فإنّ حملة الاستقالات ليس لديها تأثير على المؤسسات إنّما على الصحافيين الآخرين حيث تشكّل نوعا من الالهام والتضامن مع القضية".

الحنين للمحور الأميركي

من جهّته يقول الاعلامي ورئيس تحرير الأخبار في تلفزيون لبنان، جلال عساف، في حديثه لموقع "الصفا نيوز" أنّ "مسألة التضامن من عدمه مع الرواية الفلسطينية هي مسألة منطق"، سائلاً "من له حقّ الدفاع عن نفسه؟ محتلّ الأرض أم من أرضه محتلّة؟ وأنا كإعلامي ليبرالي أتمسّك بمبادئي الإنسانية من منطلق رفض أيّ محاولة لترهيب وقتل المدنيين بذريعة وجود عناصر لحماس! فحتّى في العمليات العسكرية المخابراتية، وعندما تريد جهّة ما اغتيال شخص، تتوقّف العمليّة بمجرّد وجود طفل في المكان".

وأضاف "نحن نرفض الأعمال العنيفة والإرهابية، ولكن ومنذ 18 سنة والفلسطينيين ملتزمين باتفاقية أوسلو ويريدون سلاماً ومن 10 سنوات وحتّى اليوم وإسرائيل تقصف وتدمّر وتضيق على الفلسطينيين في الضفة الغربيّة حيث لا وجود لحماس هناك أصلا!"، منتقدا "خطّة تهجير الفلسطينيين حيث يجب أن يكون لهذا الصراع حلّ آخر".

وعن واقع الصحافيين اليوم، الواقعين بين شاقوفين، فإمّا القيام بما يملي عليهم ضميرهم أو البقاء في مؤسساتهم خوفاً على لقمة عيشهم علقّ عساف بأنّه "يخشى العديد من الصحافيين أن يغضب عليهم المحور الأميركي وأن لا يجدوا فرص عمل في منابر أخرى. أمّا في لبنان فلا يخفى على أحد أنّ بعض الوسائل الإعلامية مموّلة من الخارج وتحديداً من فرنسا وأميركا، ما يفرض على الصحافيين الالتزام بقواعد معينة في تغطيتهم لأيّ حدث سياسي".

وأضاف "حتّى أن بعض المراسلين المنتمين إلى الخطّ الأميركي، والذين نزلوا الى الجنوب ورأوا الحقيقة بدأوا يكتشفون نفاق الرواية الأميركية الإسرائيلية، إلّا أنّه يبقى لديهم نوعاً من الحنين باللاوعي أنّ إسرائيل أو أميركا على حقّ. ويتملّكهم خوف من خسارة الوظائف في المحور الذي يحبونه. وتساؤلات حول ماذا لو انتصر المحور الأميركي؟ إلاّ أنّه يبقى العديد من الصحافيين المهنيين وأصحاب الضمير الذين يرفضون الانصياع للأكاذيب في رواياتهم ويحتجّون على سياسات مؤسساتهم، وتبقى المسألة مرتبطة بشخصية كلّ فرد وما يملي عليه ضميره".

في المحصّلة لم تكتف حرب إسرائيل على غزّة بكشف نفاق الإعلام الأجنبي، وتعرية كذبه، إلاّ أنّها أعادت إلى الواجهة من جديد قدرة الإعلام على التّأثير واستخدامه سلاحاً لتخدير الشعوب، والقوّة التي يتمتّع بها الاعلام بالتحكّم بالحقائق والوقائع، كما أنّها طرحت إشكالية قديمة جديدة، وهذه المرّة على نطاق أوسع، وهي مدى تأثير سياسات التحرير على حرية الرأي والتعبير للصحافيين، والوضع الحرج للإعلاميين الذي يجبرهم على الاختيار بين ضميرهم ووظيفتهم، حيث أنّ الوسيلة الأولى التي تدّعي حماية حرّية الرّأي والتعبير هي نفسها قامعة لهذه الحقّ على حساب مصالحها الضيقة.