المشكلة أنّ أحداً من المسؤولين لم يتجرّأ منذ أربع سنوات على مجابهة المودعين بحقيقة الواقع الذي أوصلت السياسات الفاشلة لبنان إليه
"صام" اللبنانيون أربع سنوات على أمل إيجاد حلٍّ منطقيّ يخرجهم من عنق الانهيار، و"فطروا على بصلة" المعادلة القديمة الجديدة لتوزيع الخسائر: الديون المعدومة على مصرف لبنان لن تشطب، كما أقرّت الحكومة بالاتّفاق مع صندوق النّقد الدولي، إنما سيجري تكبير "صندوق استرداد الودائع"، ورفده بالمزيد من المصادر التمويلية. وذلك بغضّ النّظر عن طبيعة الودائع وقبل المحاسبة وسوق المتسبّبين بالانهيار إلى المحاكمة.
هذه المعادلة التي يرفع رايتها جزء كبير من الفعّاليات الاقتصادية والمالية، بدأ تسويقها على نطاق واسع. حيث نقلت إحدى المؤسسات الإعلامية المرئية عن مصدر مصرفي قوله: إنّ "شطب الودائع أصبح وراءنا. وما التخطيط لفرض ضريبة على القروض المصرفية المسدّدة بغير قيمتها الحقيقية إلّا بهدف تأمين المزيد من الروافد لـ "الصندوق" الذي سيعوّض على المودعين. ولاسيما منهم الذين يملكون أكثر من 100 ألف دولار. وقد تبلور هذا الطّرح بعد أن لان موقف صندوق الّنقد، واقتناعه بعدم إمكانية شطب الودائع كما كان يطلب".
صندوق استرداد الودائع
للتذكير سريعاً، فإنّ سياسة الإصلاح المالي والاقتصادي للحكومة الصادرة في 9 أيلول 2022، قد أقرّت، فعلاً لا قولاً، بإنشاء "صندوق استرداد الودائع". وذلك على الرّغم من عدم ترحيب صندوق النّقد بهذه الفكرة، على محدوديّتها، في أكثر من مناسبة. ومنها مؤتمر رئيس بعثة الصندوق ارنستو راميراز ريغو في ختام جولته على لبنان في آذار الفائت. ويتمّ بحسب الخطّة الحكوميّة تمويل صندوق استرداد الودائع من خلال تحويل جزء من أصول البنوك، وحقوق مصرف لبنان المكفولة، والأموال المسروقة والمهرّبة وغير المشروعة، ومن الذين استفادوا من نفوذهم السياسي، أو استغلّوا معلومات خاصّة بحكم موقعهم المصرفي.
لا يمكن للدّولة تحمّل عبء الديون
إذاً، صندوق استرداد الودائع موجود، ومشروع قانون اقتطاع ضريبة دخل من الذين سدّدوا قروضهم خلال الفترة الماضية بغير قيمتها الحقيقية لتمويل "صندوق استرجاع الودائع" المزمع إنشاؤه، موجود أيضاً. إنّما لا رابط مباشر بين الطرحين من جهة، وبين إعطاء صندوق النّقد الدولي الضوء الأخضر لردم الدولة بشكل أساسي الفجوة النقدية في مصرف لبنان والبالغة حتّى تاريخ توقيع الاتفاق على صعيد الموظفين 72 مليار دولار. فكلّ ما يهمّ الصندوق أن لا تَدخل هذه الديون في موازنة الدولة. وذلك من أجل المحافظة على نسبة دين تقلّ عن 100 في المئة بالنّسبة إلى الناتج المحلّي. كما أنّه لا يمكن بالمنطق حماية أموال الدائنين والمودعين، وشطب ديون الدائنين من حملة سندات "اليوروبوندز"، والتي تبلغ أكثر من 37 مليار دولار مع فوائدها. هذا عدا عن أنّ إضافة دين بهذا الحجم على الدّولة سيخفّض قدرتها، هذا إن لم يعدمها، على القيام بمشاريع التنمية أو خطط الحماية الاجتماعية وتأمين أبسط المتطلّبات بالنّسبة للسكان. وقد يعرض هذا العبء أيضاً الدولة إلى مخاطر التخلّف عن سداد المبالغ التي سيقرضها إياها صندوق النّقد في إطار خطّة التعافي أو ما يعني المحافظة على استدامة الدين. هذه هي المبادئ الأساسية التي ينطلق منها صندوق النّقد الدولي في مقاربته لموضع ودائع البنوك في مصرف لبنان التي صرفت على الدعم وتثبيت سعر الصرف وديون كهرباء لبنان.. وغيرها.
من الممكن تحويل الودائع إلى سندات، لتداولها ببورصة بيروت
الدولة الدّاعمة لصندوق استرداد الودائع
المشكلة أنّ أحداً من المسؤولين لم يتجرّأ منذ أربع سنوات على مجابهة المودعين بحقيقة الواقع الذي أوصلت السياسات الفاشلة لبنان إليه. "وأمام عمق الأزمة وتجذّرها، عملنا بصفتنا لجنة نقابية لحماية حقوق المودعين، على خطّ مواز لإنصاف المودعين، وحماية حقوقهم، وإعادة أكبر جزء من الودائع إن أمكن بأسرع وقت ممكن"، يقول المحامي الذي عمل على صياغة "مشروع قانون يرمي إلى تخصيص بعض الإيرادات الضريبية المباشرة لتمويل صندوق استرجاع الودائع المزمع إنشائه" الدكتور كريم ضاهر. "وقد عملنا من ضمن خطّة واقعية عملية من الناحية الفنيّة والمنطقية. فاقترحنا حلول موازية، منها:
- البدء بمداخل رئيسية للإصلاح.
- محاسبة المصرفيين.
- تمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة، ما يخفّض الفجوة المالية.
- الانتهاء من التدقيق الجنائي، بدءاً من مصرف لبنان واستكمالاً في بقية الوزارات والإدارات.
- تحصيل الأموال المتأتية من أعمال الفساد.
- اتّباع الحوكمة الرشيدة، والمسارات القانونية الموجودة للمحاسبة واسترداد الأموال.
- إقرار قوانين عادلة للكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف وإعادة الودائع.
وعليه فإنّ أوّل غيث رفد صندوق استرداد الودائع بالموارد المالية يكون من "العناصر خارج الموازنة العمومي للدولة - Off-balance sheet وهي أصول أو التزامات لا تظهر في الميزانية العمومية. ما يمكن الدولة مع تحسّن المؤشرات المالية والاقتصادية التعويض على المودعين. والبقاء في الجانب الآمن في هذا الوقت المستقطع إلى حين تحسّن الأحوال من دون أن تحمل ميزانيتها المزيد من العجوزات.
"ومن هنا أتت فكرة الضريبة على الأرباح المتأتّية من تسديد القروض المصرفية بغير قيمتها الحقيقية وبأرباح كبيرة، واستعمال المسترجع من الأموال المهرّبة والمنهوبة للتعويض على المودعين". برأي ضاهر. وبالتّالي بدلاً من أن تغذّي هذه المصادر خزينة الدولة يتمّ استعمالها لردّ أموال المودعين. وتكون الدولة تساهم بذلك بحصّتها وعلى ما تستطيع بالتعويض على المودعين". كما من الممكن تحويل الودائع إلى سندات، لتداولها ببورصة بيروت من الذين يريدون تسديد ضرائبهم بحسومات معيّنة وبصورة شفّافة ومراقبة من هيئة الأسواق المالية.
أهمّية مثل هذه الطروحات، لا تنحصر بتحمّل الدولة مسؤوليتها تجاه المودعين، إنّما تقطع الطريق على تحميلها كامل الأعباء والسير بنهج "عفا الله عما مضى". فينجو من تسبّب بالانهيار، وتغرق الخزينة بالعجوزات، والمودعين بالفقر والعوز نتيجة استحالة استرجاع ودائعهم وتحميلهم المزيد من الضرائب والرّسوم لتمويل الخزينة العاجزة.