قليلة هي اللقاءات التي تُبقي الحضور مشدوداً لآخرها وكأنّها بدأت تواً، كاللقاء الذي استضافه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مع حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري.
عن قصد أو بالصدفة، استعمل منصوري الأسلوب القصصي الأكثر جذباً للانتباه، لسرد فصول من "رواية" المصرف المركزي في ظلّ الانهيار الاقتصادي. ربط منصوري ماضي السياسات النقدية الفوضوية، بحاضر الإجراءات الاصلاحية. ظهّر في "الحبكة" الصراع مع الدولة العاجزة عن القيام بالإصلاحات. خلق من الإدارة الجديدة في المركزي الشخصية المركزية الأقرب للمودعين؛ فارضاً عليهم وضع أنفسهم مكانها، لحثّهم على الاستمرار بمتابعتها ودعم الاجراءات التي تأخذها. ردة الفعل الجمهور لم تتأخّر بالظهور، نقيب المحامين ناضر كسبار "سرق" دقائق معدودة من جلسة مجلس النقابة مع الرئيس نبيه بري، للمشاركة باللقاء، والإشادة بدور منصوري والتأكيد على دعمه. ولم يغادر قبل طبع قبلة على جبينه تعبيراً عن الدّعم المطلق. كذلك فعل معظم المتحدّثين الذين استهلّوا كلماتهم بعبارات الترحيب بالسياسة الجديدة التي ينتهجها منصوري...
هذا كان من حيث الشكل، وهو معبّر من دون شك. أمّا في المضمون فقد فجّر منصوري مفاجأة عدم متابعة رياض سلامة التعميم 154 المعني برسملة المصارف وزيادة سيولتها. وأنّ التعميم 158 هو التعميم الحيّ الوحيد من تعاميم المرحلة السابقة والذي لا مجال لتوسيعه قيد أنملة. فيما قضى تخفيض سعر الصرف إلى 15 ألف ليرة في موازنة 2022 تلقائياً على التعميم 151.
الاستقرار النقدي
"لأوّل مرّة منذ ثلاثين عاماً يحافظ سعر الصرف على استقراره من دون تدخّل المصرف المركزي بائعاً للدولار من احتياطاته"، قالها منصوري. قبل أن ينتقل للاستنتاج أنّ سعر الصرف في السوق الموازية اليوم هو السعر الحقيقي لليرة مقابل الدولار. إلّا أنّ منصوري المعتزّ بالوصول إلى هذه المعادلة الدقيقة، عاد وأنزل الجميع عن "غيمة" استقرار سعر الصرف، إلى واقع قد يتبدّل بين شهر أو آخر، أو حتى بين يوم وثانٍ في حالة من اثنين: التوسّع بالإنفاق الحكومي من دون إيرادات، والمضاربة. فسعر الصرف كما قال يتمّ تحديده اليوم بالاستناد إلى ثلاثة عوامل، هي:
- تعاون القوى الأمنية والقضاء. وذلك من خلال ضبط المضاربين وتوقيفهم.
- الحدّ من ضخ الليرة اللبنانية بالسّوق عن طريق المصارف التجارية عبر آلية اتفق عليها مع مصرف لبنان، وبرقم سقفه الأعلى 50 مليار ليرة يومياّ لكلّ مصرف.
- تفعيل الجباية العامّة. حيث أظهرت الأرقام ارتفاع الجباية بشكل ملموس لشهري آب وأيلول ووصلت إلى 20 ترليون ليرة شهريا أو ما يعادل 200 مليون دولار، من بينها 11 إلى 12 ترليون ليرة عبارة عن أموال نقدية (فريش).
هذا الواقع سمح للمصرف المركزي أن يشتري الدولار للدولة، بالليرات التي تسحبها من السوق، من أجل تسديد رواتب القطاع العام لهذا الشهر بالعملة الأجنبية. وبرأي منصوري فإنّ "هذه الآلية تحدّ من ناحية، تحويل نحو 7000 مليار ليرة التي تمثّل كتلة الرواتب والأجور إلى الدولار مع بداية الشهر، مع ما تحمله من مخاطر عودة الدولار للارتفاع. وتؤمّن من ناحية ثانية استقراراً وظيفياً لنحو 400 ألف موظف. وهي من هذه الزاوية تعتبر سياسة نقدية أكثر منها آلية دعم أو مساعدة اجتماعية. وفي جميع الحالات فإنّ هذه الدولارات متأتّية مما يشتريه المصرف المركزي بأموال الدولة، والتي لا تتجاوز شهرياً ما كان يتم شراؤه في يوم واحد. وتخضع هذه العملية لقواعد الامتثال، لجهة رقابة مصادر الدولار والحرص على تطبيق قواعد مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب".
السؤال الكبير
تسير الاجراءات التي يقوم بها مصرف لبنان، بين نقاط "شهية" الدولة المفتوحة على الانفاق، وعجزها عن الإصلاح. والسؤال هل تستطيع الليرة الصمود فيما لو تحوّلت النقاط إلى "زخات غزيرة". الجواب هو النفي طبعاً بحسب ما يستدلّ من سياق حديث الحاكم بالإنابة وسيم منصوري. فـ"ماليّة الدولة انتظمت من حيث المبدأ مع الغاء الاستثناءات، ووضع موازنة 2022 على سعر صرف حقيقي وليس السعر الرسمي المحدّد بـ 15 ألف ليرة. لكن، لأيّ مدى تبقى الدولة اللبنانية قادرة على الالتزام مع المصرف المركزي بعدم ضخّ ليرات في السوق بأكثر مما نسمح بوضعه، فهذه الامر يبقى مرهوناً بالإصلاحات" بحسب منصوري. ذلك مع العلم أنّ إيرادات هذا الشهر سمحت بتحويلها إلى الدولار لتسديد مصروف الكهرباء وشراء الدواء، هذا بالإضافة طبعا إلى دفع الرواتب بالعملة الأجنبية على سعر المنصة".
ورشة في "المركزي"
الشؤون الاقتصادية والهموم النقدية لم تثنِ الإدارة الجديدة في حاكمية المصرف المركزي عن القيام بورشة إصلاحات طال انتظارها تتعلق بحوكمة المصرف. حيث كشف منصوري عن التعاون مع مؤسسات دولية متخصّصة وتشكيل لجان بهدف تقوية المديريات وجعلها قادرة على اتّخاذ القرارات منفردة بإشراف الحاكمية. والعمل على تعزيز آلية المحاسبة لتتلاءم مع المعايير الدولية. وتشكيل لجنة لمتابعة علاقة المركزي مع الدولة لتنظيم العلاقة المالية والمحافظة على انتظامها. وحول الخسائر المسجّلة على الدولة اعتبر منصوري أنّه ليس من المهم قلب الخسائر المحقّقة في ميزانية المصرف، ذلك أنّ المادة 113 من قانون النقد والتسليف تلزم الدولة بتسديدها. إذ تنصّ "إذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً، تغطّى الخسارة من الاحتياط العام. وعند عدم وجود هذا الاحتياط أو عدم كفايته تغطّى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة". وعليه فإنّ "الهدف ليس قلب الخسائر بطريقة عشوائية"، يشدّد منصوري، "إنّما القدرة على إيجاد آلية للدفع تسمح للدولة بالاستمرار بحسب الشروط التي يضعها بنك التسويات الدولية".
عدا عن أنّ اللاءات التي رفعها منصوري في وجه السلطة السياسية مؤقّتة فهي مرهونة بلجم الدولة إنفاقها وتعزيز جبايتها. واستمرار كبح جماح المضاربين سواء كان بالسياسة أو بالقانون. وفي حال فقدان أيّ من هذين العنصرين فإنّ اللاءات ستتحوّل إلى "فقاعة" لا تلبث أن تنفجر لتعيد الأمور أسوأ ممّا كانت عليه.