شهد لبنان موجة من الحرائق القاسية في الأشهر الماضية، محافظتا عكّار والشمال نالتا حصّة الأسد منها.

كعادته في كلّ عام، يحلّ فصل الصيف في لبنان، مصحوبًا بموجات حرٍّ حادّة، تفتَتِح بلهيبها موسم الحرائق، التي وإن حاول البعض تحميل أسبابها لدراجات الحرارة المرتفعة، تبقى بمعظمها نتيجة إهمال وجهل فئة كبيرة من المواطنين، غير الآبهة بمبادئ المحافظة على البيئة. فيما فئة أخرى تتعمّد إشعال الحرائق لمصالح خاصّة ضيّقة. نتيجة ذلك يتكبّد لبنان نحو 125 مليون دولار، كتكاليف لحرائق الغابات المنتِجة كالصنوبر، بالإضافة إلى نحو 100 مليون دولار تكلفة انزلاقات التربة، بحسب تصريح سابق للدكتور شادي عبد الله، باحث في المركز الوطني للاستشعار عن بعد، التابع لـ"المجلس الوطني للبحوث العلمي".

في الإطار نفسه يعتبر لبنان من أكثر الدول نشاطاً والتزاماً بتطبيق عدد من الاتفاقيات أهمّها "إطار سينداي"، و"إتفاقية باريس للمناخ" وأهداف التنمية المستدامة، وأجندة الأمم المتّحدة للعام 2030، وآخرها استراتيجية الدّول العربية للحدّ من مخاطر الكوارث. ومن دور الهيئة العليا للإغاثة إدارة مختلف أنواع الكوارث بجميع مراحلها، إلاّ أنّ عملها لا يتضمّن المبادئ الأربعة من الوقاية فالاستعداد للكارثة والاستجابة ومن ثم التعافي.

سلسلة حرائق سيطرت على جنوب وشمال لبنان

وكان قد شهد لبنان موجة من الحرائق القاسية في الأشهر الماضية، محافظتا عكّار والشمال نالتا حصّة الأسد منها. جنوباً اندلعت 6 حرائق في بلدة حومين الفوقا، اشتعلت خلال ساعات قليلة، عجزت قوى الإطفاء في المنطقة عن إخمادها بالسّرعة المطلوبة. في المقابل شهدت بلدة عكّار، سلسلة حرائق في أقلّ من شهر. حيث اندلع حريق في خراج بلدة مشحا إلتهم أعشاباً يابسة وأشجاراً حرجية وأخرى مثمرة. وآخر في البيرة أتى على مساحة من الأرض العشبية اليابسة. وحريق في خراج بلدة القبيّات التهم أعشابا يابسة وأشجاراً حرجية. وحريق في بلدة المحمّرة شب في أعشاب يابسة وفي حقل من القصب. وحريق في بلدة الهيشة بالقرب من المنازل شبّ في أعشاب يابسة وأشجار مثمرة مختلفة. وحريق في خراج بلدة حرار التهم أعشابأ يابسة وأشجاراً حرجية. وإلى عكّار انضمت زغرتا، بعد اندلاع حريق كبير في جبل تربل حيث امتدّت النيران بسرعة بسبب الرياح واقتربت من بلدة علما المجاورة.

أيّ مناطق هي الأكثر عرضة للحرائق؟

نتيجة هذه الحرائق نشرت وزارة البيئة 3 خرائط تظهر المناطق الأكثر عرضة للحرائق في أوّل شهر تمّوز، محذّرة من أنّ "لبنان يتعرّض، كسائر البلدان في المنطقة، إلى موجة طقس حارة وناشفة قد تمتدّ في الأيام المقبلة ممّا يفاقم أكثر خطر اندلاع الحرائق في غابات لبنان والأراضي العشبية والزراعية".

وذكّرت الوزارة بـ"الحاجة الملحّة لزيادة الجهوزية والاستعداد والتنبّه من اندلاع الحرائق، مع الطلب من كافة السلطات المحلية ولجان المحميات الطبيعية ومراكز الأحراج أن تتّخذ إجراءات قصوى للحد من خطر الحرائق، ومنع استعمال أيّ مصدر للنار في الأراضي الزراعية والأحراج والأراضي العشبية ويتضمّن ذلك عدم استعمال الألعاب النارية واتّخاذ إجراءات صارمة لمنع استعمال أي مصدر للنار".

والمناطق الأكثر عرضة للحرائق التي أظهرتها خرائط الوزارة هي: الشّوف، عاليه، بشري، زغرتا، جبيل، البترون، عكّار. تأتي من بعدها بالدّرجة الثانية، مناطق المتن الأعلى، وبعبدا وجزين، وراشيا وبعلبك.


خطّة من 4 نقاط للتصدًي للحرائق

في هذا الإطار تواصل موقع "الصفا نيوز" مع وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين، للاستفسار عن حجم المساحات التي تأّذّت جراء حرائق الصيف، فأكّد أنّ "نسبة احتمال اندلاع الحرائق هذا العام وحجم خطورتها كانا أعلى من معدّل العام السابق، حيث كان مؤشّر الخطورة أو حديّة الحريق(severity indicator) من الأعلى مقارنة بمعدّل السنوات العشرة الأخيرة. إلاّ أنّه وفي المقابل حجم المساحات المحروقة جاء أقلّ من المعدّل السنوي وهو مؤشّر المقياس الأهمّ".

وحذّر ياسين اللبنانيين من أنّه "ينتظرهم 6 أسابيع صعبة، قد نشهد فيها اندلاعًا لعدد من الحرائق في مختلف المناطق، نتيجة الجفاف والرياح الصيفيّة وارتفاع درجات الحرارة وعوامل مناخيّة قاسية أخرى".

إلّا أنّه طمأن أنّ الوزارة وبالتعاون مع البلديات والجمعيات والدفاع المدني، في جهوزيّة تامّة للتصدّي للحرائق وذلك عبر 4 خطوات أساسيّة وهي:

أوّلا، التوعية: حيث تسعى هذه الجهّات إلى نشر الثقافة البيئيّة بين المواطنين حول ضرورة حماية البيئة، عبر عدم حرق مخلّفات المواسم الزراعيّة، وعدم رمي النفايات التي قد تتسبّب بحرائق في الأحراج.إلخ.

ثانيا، الوقاية والحدّ من المخاطر: حيث أنّ معظم الحرائق في لبنان ليست طبيعيّة إنّما من صنع البشر الذين لا دراية لهم بعواقب أفعالهم، ولا بالقوانين التي تعاقب على هذه الممارسات، وأوّلها قانون الغابات الذي يمنع إشعال النار بين شهر 6 و10 إلاّ عن مسافة لا تقلّ عن 600 متر من الأحراش والغابات.

ثالثا، الرصد والإنذار: حيث تعاونت الوزرة مع المجلس الوطني للبحوث العلميّة وجامعة البلمند وعدد من البلديات والجمعيات على وضع خرائط تظهر الأماكن الأكثر عرضة للحرائق. أمّا على المستوى المحلّي فشكّلنا مجموعات في المناطق مؤلّفة من متطوعين وسكّان المنطقة، وأعضاء بالدفاع المدني وموظفي البلديات، ترصد الحرائق وتبلّغ عنها، في محاولة لاستباق امتداد الحريق، وضبطه بأسرع وقت. وإلى جانب هذه المجموعات تأتي مجموعة محليّة أخرى مؤلّفة من فرق تدخّل سريع من أهالي المناطق، خضعوا لتدريبات على أساليب التعامل مع الحرائق وإخمادها، وهؤلاء يتواصلون وينسّقون بسرعة فائقة مع الدفاع المدني فور وقوع الحريق، الذي بدوره يدرس الوضع ويطلب الدعم إن اقتضت الحاجة من فرق التدخل الجوي في الجيش اللبناني. وهذه الأخيرة وبعد تشخيصها لحجم الحريق تقوم بالتواصل مع جهات خارجيّة إن خرج الحريق عن السيطرة، وتطلب الدعم. حيث قام لبنان يتوقيع معاهدة مع قبرص، لمدّ الدعم خلال الحرائق.

رابعا، التعافي: وهي سياسة نعمل على وضع آليتها سعيا إلى تطبيقها.

ورأى ياسين أنّ "العامل البشري يبقى أهمّ نقطة يتوجّب العمل عليها، خصوصاً من ناحية الإهمال والتعمّد بالأذى. فجميع حالات الحرائق في لبنان من صنع بشر، إمّا المزارعين الذين يحرقون مخلّفات مواسمهم، أو شبّان يشعلون النار في الحقول بهدف التخييم ويتركون مخلّفاتهم من نفايات وغيرها في الطبيعة، أو تجّار حطب يستفيدون من الحرائق لقطع الأاشجار وبيعها...".

وعن ضعف المحاسبة القانونيّة يردّ "لسنا بوضع قضائي أو حضور أمني مثالي، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع البلديات من القيام بعملها من جهة نشر الوعي بين المواطنين، ومحاولة الوقاية والحدّ من مخاطر الحرائق. فالدولة تسعى بكلّ جهودها لوضع ملفّ الحرائق في لبنان على السكّة السليمة".

الحرائق تزداد في أيلول وتشرين الأوّل

من جهّته أوضح مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في جامعة البلمند جورج متري، أنّه "إجمالا ننتظر نهاية الموسم لننجز "التقييم الوطني الكامل" الذي يلخّص حجم المساحات التي احترقت وأنواع المناطق الطبيعيّة التي تأثّرت، والذي يصبح جاهزاً في نهاية شهر كانون الثاني، بالتعاون والتنسيق مع وزارة البيئة وجامعة البلمند. إلاّ أنّ نسبة الحرائق هذا العام وحتى آخر شهر آب جاءت أقلّ من المعدّل السنوي مقارنة مع العام السابق والذي كان 250 هيكتاراً. أمّا أرقام الحرائق التي قد تحدث فرقاً فتظهر في شهري أيلول وتشرين الأوّل. حيث تزداد أعداد الحرائق بعد نهاية فترة جفاف طويلة بسبب غياب الرطوبة الكافية في التربة وفي الغطاء النباتي، فيما تكون أحوال الطّقس قاسية وتظهر على شكل درجات حرارة عالية ورطوبة متدنّية وجفاف. فضلاً عن أنّ المزارعين يلجأون إلى حرق مخلفّات الموسم الزراعي لتنظيف أراضيهم ما قد يتسبب بالمزيد من الحرائق".

وكشف متري أنّه "لهذا الموسم، حصدت عكّار النّسبة الأكبر من الحرائق، وخسّرتها مساحات خضراء كثيرة. وذلك طبيعي لكون منطقة عكار تملك النسبة الأكبر من الأحراج".


للحرائق نتائج وخيمة إقتصاديّة وبيئيّة

وعن التأثيرات البيئيّة والإقتصاديّة لهذه الحرائق يقول متري "تضرّ الحرائق بالمناطق البيئيّة التي تحوي غطاء نباتيًّا فريدًا من نوعه، كغابات أرز ولزاب (نوع من الأشجار الصمغيّة الذي ينمو في مناطق عالية)، وهذه الأنواع من الأشجار لا تملك القدرة على الإنتعاش بعد الحريق، وتسبّب ضرراً ايكولوجيًّا كبيرًا جدًا. كما تزيد نسبة التلوّث في الهواء، وتضرّ بالتربة والتنوّع البولوجي ".

وإلى جانب الخسائر البيئيّة، يتابع متري، "تتسبّب الحرائق بخسائر اقتصادية مباشرة، حيث إنّ للغابات قيمة اقتصادية خشبية عالية، فضلاً عن الخدمات العديدة التي توفّرها وعلى رأسها الخدمات السياحية. كما أنّ الحرائق تطال أراضٍ زراعية، فتضرّ بالمحاصيل وأفران النحل ما يضرب الموسم الزراعي كلّه".

المشكلة في غياب المحاسبة القانونيّة

بدورها تقول مايا نعمة، عضو في مبادرة التّحريج الوطنيّة، في حديثها لموقع "الصفا نيوز" إنّ "مشكلة الحرائق في لبنان، تعود إلى قلّة الوعي وعدم تطبيق القانون بشكل صارم. فلو كانت الأجهزة المعنيّة تقوم بدورها بمحاسبة كلّ من يقدم على إشعال حريق بشكل غير مقصود أو مقصود كانت نسب الحرائق انخفضت إلى النصف تقريباً. ولو كان النّاس يملكون الوعي الكافي حول أهميّة المحافظة على البيئة، وعدم اللجوء إلى حرق النفايات، أو التخلّص من كلّ ما لا يحتاجونه عبر حرقه، والإستفادة منه بطرق أخرى، أو إعادة تدويره، كنّا تفادينا عدداً كبيراً من الحرائق".

وتتابع نعمة "هناك تنسيق دائم بين الجمعيات غير الحكوميّة والبلديات لنشر الوعي حول مخاطر الحرائق على البيئة، ووضع خرائط حول الأماكن المهدّدة بالحرائق، كما تمّ وضع استراتيجيات عديدة تعرض حلولاً لتخفيف نسب الحرائق في لبنان، وتحديد مواقع خطر الحريق ومسبّباته، إنّما تبقى المشكلة بغياب المحاسبة القانونيّة".

كما تلفت إلى أنّ "عوامل التغيّر المناخي (الجفاف، درجات الحرارة المرتفعة، الرياح) تؤثّر بطبيعة الحال على تمدّد الحريق وقوّته إلاّ أنّها لا تسبّب بالحريق بل بتمدّده. حيث يصعب اندلاع حريق دون أن يكون للإنسان يدًا فيه، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وعن قصد أو عدم وعي".