الشّروط الدّولية لتقديم أيّ مساعدة ماليّة للبنان معروفة، ويُمكن تلخيصها بعبارة صغيرة: "قوموا بالإصلاحات تحت رعاية صندوق النّقد".
احتدمت الأزمة الإقتصادية في بلاد الأرز، ووصلت إلى حدّ عدم قدرة الحكومة على تأمين الدولارات الضرورية لتغطية الإنفاق التشغيلي الضروري. وإذا كانت باخرة الحفر TransOcean Barents وصلت إلى لبنان من النروج لتبدأ عمليّة الحفر في الرّقعة رقم تسعة، وشكّلت مدعاة تفاؤل في ظلّ الظّرف الإقتصادي القائم، إلّا أنّ الواقع على الأرض يُشير إلى إستحالة إستفادة لبنان من غازه من دون إجراء إصلاحات عميقة، عمق الغاز القابع في البحر.
أصبحت الشّروط الدّولية لتقديم أيّ مساعدة ماليّة للبنان معروفة، ويُمكن تلخيصها بعبارة صغيرة: "قوموا بالإصلاحات تحت رعاية صندوق النّقد". فالمُجتمع الدّولي الذي ضخّ عشرات مليارات الدّولارات في لبنان على مرِّ عقود، اكتشف حجم الفساد الهائل في النظام السّياسي اللبناني والذي يُشكّل العائق الأساسي أمام أيّ مساعدات يُمكن تقديمها للدولة اللبنانية، سواء على شكل هبات أو قروض ميسّرة. وبالتّالي أصبح هناك التزام واضح صرّحت به مُعظم الدول التي طلب منها لبنان المساعدة أو كانت تُساعد لبنان سابقًا أو كانت مُلتزمة بتقديم دعم في مؤتمر سيدر في باريس في العام 2018، "لا مُساعدات من دون إصلاحات، وإذا كنتم تُريدون مُساعدات وقّعوا على إتفاق مع صندوق النقد الدولي". هذه خلاصة الإلتزام الذي بالطّبع له بعض النّواحي السياسية والتي من دون أدّنى شكّ ستُعدّل في المشهد السياسي القائم في لبنان.
وبفرضية عدم قيام لبنان بإصلاحات، كيف يُمكن للدوّلة الحصول على الأموال للخروج من الأزمة الحالية؟
عمليّاً هناك إحتمالان وكلاهما مُرتبط برضى المُجتمع الدولي:
الإحتمال الأول هو التمويل من المُغتربين الذين لهم القدرة على مُساعدة لبنان لكنهم لا يثقون بأداء السلطة السياسية، وحتى لو أرادوا المساعدة، هناك عوائق تأتي من الدول التي يعملون فيها ؛
الإحتمال الثاني هو التمويل من إستخراج الغاز الواعد جدّاً في المنطقة الإقتصادية الخالصة التابعة للبنان، وبالتّحديد في الرقعة رقم تسعة. إلّا أنّ هذا الخيار يصطدم بأكثر من مُشكلة على رأسها أنّ الغاز المُستخرج هو ملك للشركة المُشغّلة، على أن تأخذ الدّولة حصّة من المبيعات (من المفروض أنّها بحدود الثلاثين بالمئة). وبالتّالي، فإنّ المُجتمع الدولي قد يمنع على الشركة المُشغّلة إعطاء الدولة حصّتها من الغاز وتجميد المبالغ المُستحقّة، كما سبق وفعل مع روسيا وإيران، وهو ما يعني عدم قدرة لبنان على الإستفادة من هذه الثروة. أيضاً من بين المعوّقات عامل الوقت حيث أنّه وفي حال تمّ كل شيء كما يطلبه المُجتمع الدولي، لن يستطيع لبنان الإستفادة من هذه الثّروة قبل خمس إلى سبع سنوات في أحسن الأحوال. وإذا كان البعض يعتمد على إمكانيّة الإقتراض بمجرّد الإعلان عن وجود غاز بكمّيات تجارية، إلّا أنّ غياب الإصلاحات سيمنع أيّ دولة أو مؤسسة من القيام بهذا الأمر.
وإذا ما افترضنا، رغم أنّها فرضيّة مستبعدة، أنّ المُجتمع الدولي قبل بإعطاء لبنان الأموال، فإنّ هذه الأموال ستُصرف كما صُرفت الأموال سابقًا من دون أن يكون هناك إستدامة للإقتصاد. من هنا ضرورة وإلزامية القيام بإصلاحات إقتصادية أقلّ ما يُقال عنها أنّ غيابها يُهدّد الكيان اللبناني. عمليّاً إستمرارية الدّولة اللبنانية مُحدّدة بعدّة أشهر فقط في ظلّ استمرار الوضع على ما هو عليه، حيث أنّ غياب القدرة المالية للدّولة سيؤدّي إلى تعطيل العديد من المرافق الحيوية (جيش، قوى أمنية...) والتي ستخلق حكمًا إضطرابات اجتماعية بحكم غياب الخدمات العامّة وأجور القطاع العام والأدوية وغيرها.
إذًا إلى متى رفض الإصلاحات؟ وكيف يخدم غيابها جماهير القوى السياسية؟
الأزمة المُتوقّعة للدّولة أو ما يُمكن تسميته بالإنهيار السريع سيطال كلّ الأفرقاء وكلّ مكوّنات المُجتمع، حتّى الذين يمتلكون مداخيل بالدّولار الأميركي. وبالتالي لا مصلحة لأحد بالإعتراض أو تعطيل الإصلاحات.
هذه الإعتراضات التي تقوم على الحفاظ على المصالح مقسومة لثلاثة أقسام:
- القسم الأول – الخوف على مكاسب اقتصادية، ومالية، وإدارية حقّقتها بعض القوى السياسية خلال فترة ما بعد الحرب الأهلية ؛
- القسم الثاني – الخوف من مطالب سياسية مبطّنة في بعض الإصلاحات الإقتصادية ؛
- القسم الثالث – الخوف من المُحاسبة على الأداء في الفترة الماضية.
أظهرت الأزمة المُتعلّقة بانتخابات رئاسة الجمهورية أنّ القرار اللبناني مُنسحق أمام التدخّلات الخارجية ولا قدرة لممثّلي الشّعب على إقرار إصلاحات من دون ضوء أخضر خارج يأتي من عدّة عواصم في آنٍ واحد، ممّا يعني أنّ لبنان أصبح رهينة التسويات الخارجية. وهو ما يعني أيضاً أنّ الكيان اللبناني أصبح في أخطر مرحلة من عمره عملًا بأنّ الحكومة لا تملك ما يكفي من الأموال لتغطية نفقاتها التشغيليّة بالحدّ الأدنى، ولعلّ شهر أيلول سيكون نقطة البداية لهذه المرحلة مع تراكم الاستحقاقات سواء على الصّعيد الحكومي (شراء أدوية وقمح ومحروقات...) أو على صعيد الشّعب (أقساط مدرسيّة وشراء المحروقات للشتاء...)، وتراجع المداخيل بالدّولار (ذهاب السياح...)، والقرار بامتناع مصرف لبنان عن تمويل الحكومة.
وصل لبنان إلى مرحلة لم تعد تنفع معها التصريحات الصادرة من القوى السياسية. المطلوب اليوم القيام بالإصلاحات اللازمة والضرورية رأفة بالشعب. وإذا كان ما يطلبه صندوق النّقد الدولي من إصلاحات هو كأس مُرّ بالنسبة لبعض القوى السياسية، فعلى هذه الأخيرة معرفة أنّ الكأس سيكون أمرّ إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه.
من هنا نرى أنّ الفوضى وخلق الفتن والإبقاء على الوضع على ما هو عليه، قد يكون – باعتقاد البعض – وسيلة للهروب من المحاسبة. إلّا أنّه من الظاهر أنّ المجتمع الدولي أخذ قراراً واضحاً ترجمه سابقاً بالعقوبات، وينصّ على مبدأ مساءلة ومُحاسبة كلّ من مسّ بالمال العام حتّى ولو طال الوقت. وبالتّالي فإنّ سياسة شمشوم الجبار "عليّ وعلى أعدائي يا رب" لن تنفع إذ أنّها ستضرّ بالشّعب وبجمهور هذا البعض الذي لا يريد المحاسبة أو يريد المحافظة على مكتسباته.