في ذروة الحديث عن الحشد العسكري المتبادل، كشفت واشنطن وطهران أنّهما توصّلتا إلى اتّفاق تفرج بموجبه الثانية عن خمسة مواطنين أميركيين مقابل إلغاء تجميد نحو 6 مليارات دولار من عائدات النّفط الإيراني في كوريا الجنوبية.
يصعب التكهّن بمآلات الأمور على الخط الإيراني - الأميركي. المفاجآت دائماً سيّدة الموقف. ينام العالم على أخبار التصعيد والتوتّر بين الجانبين. يصحو على أنباء عن فتح قنوات التفاوض وإبرام الصفقات بينهما.
في مياه الخليج يضع الطرفان أيديهما على الزناد. وفي الدّوحة ومسقط يتفاوضان. الشيء ونقيضه في مجال جغرافي واحد. هذا سرّ العلاقة الإيرانية الأميركية المحيّرة للجميع. البنتاغون اقترح نشر قوّات من مشاة البحرية الأميركية على متن سفن تجارية تعبر مضيق هرمز، الذي ازدادت أهميّته بعد الحرب في أوكرانيا، وخطر نقص الطاقة وحساسية السوق إزاء أيّ تقلبات في أسعار النّفط والغاز وباقي سلاسل التوريد. وهو أمر قد يزيد مخاطر الاصطدامات غير الإرادية في منطقة الخليج، لاسيّما في ظلّ تعذّر وجود خط اتّصال مباشر بين الطرفين للسيطرة على أيّ حوادث مفاجئة. وفي الوقت الذي كانت واشنطن تنشر السفن والطائرات في المياه السّاخنة، كان الحرس الثوري يفعل الشيء نفسه لاسيما في جزيرة "أبو موسى". في ذروة الحديث عن الحشد العسكري المتبادل، كشفت واشنطن وطهران أنّهما توصّلتا إلى اتّفاق تفرج بموجبه الثانية عن خمسة مواطنين أميركيين مقابل إلغاء تجميد نحو 6 مليارات دولار من عائدات النّفط الإيراني في كوريا الجنوبية.
واشنطن - طهران الاتصالات عبر القنوات الخلفية لا تزال نشطة ومتعددة من سلطنة عُمان إلى قطر وسويسرا
قبل أيام من التوصّل إلى الصفقة، ساد الاعتقاد بأنّ المفاوضات الأميركية-الإيرانية غير المباشرة قد توقّفت، وبأنّ إسرائيل قد نجحت في تسديد ضربة قاضية لفرص التوصّل إلى أيّ تفاهم أميركي-إيراني حول الملف النووي. وتعزّزت هذه الفرضية بعد كفّ يد المبعوث الأميركي المعني بالملفّ الإيراني روبرت مالي، ومنحه إجازة مفتوحة للتحقيق معه في ما إذا كان سرّب معلومات حسّاسة في إطار وظيفته. الإعلان عن صفقة تبادل السجناء عكست الموقف وأظهرت أنّ الاتصالات عبر القنوات الخلفية لا تزال نشطة ومتعددة من سلطنة عُمان إلى قطر وسويسرا، للتوصّل إلى تفاهم نووي يتضمّن تجميد تخصيب إيران لليورانيوم عند نسبة 60% في مقابل تخفيف بعض العقوبات الأميركية.
ستسمح المليارات المفرج عنها لطهران بضخّ بعض الحياة مجدّداً في اقتصادها المنهك بآثار العقوبات المتواصلة وغياب السياسات الاقتصادية الناجعة منذ سنوات. وقد يصل مجموع الأموال المحوّلة لاحقاً إذا نجحت المفاوضات المتواصلة، إلى 23 مليار دولار، هي إضافة إلى المليارات الستة من كوريا الجنوبية والتي ستحوّل إلى المصارف القطرية، 12 مليار من العراق ستحوّل إلى المصارف العمانية، إضافة إلى 5 مليارات في اليابان قد تحوّل إلى الإمارات. لكنّ هذه الأموال ستبقى في حسابات إيرانية خارج الحدود تستفيد منها في شراء بضائع غير خاضعة للعقوبات، بما في ذلك مواد طبية وإنسانية. هذا الأسلوب لا تستسيغه طهران، لأنّه يمنعها من تحصيل أموالها بشكل مباشر، وإن كانت تختزنه في حسابات مصرفية تابعة لها في مصارف الدول المحوّلة إليها، لكنّه في ظلّ الظروف الحالية والعقوبات الأميركية المستمرّة، يبقى الحلّ الوحيد الذي يمكّنها من التصرّف بعائداتها الخارجية، ولعلّه يفيدها في بناء استثمارات في الدّول المجاورة، بينما تستمر في تطوير برنامجها النووي ضمن سقف لا يتخطّى الخطوط الحمر التي رسمها المجتمع الدولي.
التطوّر هو الأول بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي
هذا التطوّر هو الأول بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، لكنّه لا يعيد اتفاقية فيينا 2015 إلى الحياة، ذلك أنّ عالم ما بعد الحرب في أوكرانيا لم يعد كما كان قبلها، لاسيما في ضوء احتدام المنافسة بين أميركا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى. لذا فإنّ ما يحدث هو القليل الذي يمكن أن يُبقي سقف التّصعيد عند حدّ مفيد للطرفين، لاسيّما أنّه منح الطرفان مكاسب ظرفية بحجم إطلاق سجناء في حالة أميركا، تحتاجهم واشنطن كإعلان دعائي في افتتاح موسمها الانتخابي الرّئاسي، وتحرير أموال محتجزة في حالة إيران التي تحتاجهم في ظلّ أزمتها الاقتصادية الخانقة.
هذا ما قد لا يسرّ المنطقة والعالم ويعيد قلب الحسابات والتحالفات ويحيي النوايا النووية المبيّتة
وقد يهمّ بايدن المقبل على حملة انتخابية شرسة ضد سلفه دونالد ترامب، أن يخرج بتفاهم معين مع إيران، بسبب صلة هذه المسألة بإسرائيل. وللقول للناخبين الأميركيين إنه تمكّن من منع قيام إيران نووية بالطّرق الديبلوماسية، ولم يضطر إلى خوض غمار حربٍ أخرى في الشرق الأوسط. وقد يكون أيضا بروفة لأيّ مفاوضات مقبلة بين الطرفين بعد الانتخابات الأميركية لاسيّما في حال فوزه بفترة رئاسية أخرى. وعندها من المتوقّع أن يكون التساهل الديموقراطي تجاه إيران أكبر، لكون الرئيس في فترة ثانية، لن يعود لديه ما يخسره. أمّا في حال فوز منافسه الجمهوري فقد تتغيّر الأجواء وتتعقّد، ما قد يدفع واشنطن إلى المزيد من التشدّد والعقوبات في مقابل اندفاع إيراني اكبر نحو النّهم النووي، وهذا ما قد لا يسرّ المنطقة والعالم، ويعيد قلب الحسابات والتحالفات ويحيي النوايا النووية المبيّتة لدى دول أخرى في الإقليم ومشاريع الحروب.