ليس جديداً أن تجد القوّات في حادثة الكحّالة فرصتها لتمتين علاقتها مع قاعدتها الشعبية، وهي التي تتحضّر لإحياء ذكرى شهدائها مطلع أيلول المقبل وتحضّر لإنتخاباتها الداخلية.

من أحداث عين الحلوة إلى سيل الشّائعات التي غزت الإعلام، منها ما يتحدث عن تعثّر المفاوضات بين الرّياض وطهران وتجميد فتح السّفارت، إلى بيان السّفارة السعودية والطّلب إلى رعاياها مغادرة لبنان على وجه السّرعة، وما تلاها من إجراءات مماثلة لسفراء عدد من الدّول العربية، وصولاً إلى مقتل المسؤول القوّاتي في الجنوب ثم حادثة الكحّالة. جملة تطوّرات ليست عابرة ولم يصادف حصولها صدفة في سياق زمني متقارب. المؤكّد أن أبواب لبنان باتت مشرّعة على مخاطر أمنية محدقة به قد لا تسلم عقباها في كلّ مرّة.

ثمّة جهة كما يبدو رسمت سياقاً عاماً للأوضاع في لبنان، وأعادت ترتيبها بما يتناسب ورؤيتها وحاجتها إلى إحكام السيطرة على حزب الله وتطويقه أو جرّه إلى مواجهات داخلية.

فتحت حادثة الكحّالة الباب أمام المزايدات السياسية، وأخرجت الأحقاد من نفوس أصحابها. ورغم ذلك الكلّ بقي ضمن سياق الإستنكار والتهجم باستثناء رئيس حزب الكتائب سامي الجميل الذي أعلن التعبئة العامّة وقال أنّه انتقل من المواجهة السياسية إلى العسكرية!

قرأ البعض في موقف كهذا أنّه مجرّد محاولة للمزايدة على موقف القوات اللبنانية، التي وجدت في ما حصل فرصة للتشفّي فكتب النائب بيار بوعاصي مغردا "هنيئا للتيار الوطني الحر اتفاق مارمخايل هنيئاً له قتل جو بجاني والياس حصروني وفادي بجاني (.. ) ان لم تكونوا شركاء لحزب الله في جرائمه فهذا يعني انكم خزمتشية".

ليس جديداً أن تجد القوّات في حادثة الكحّالة فرصتها لتمتين علاقتها مع قاعدتها الشعبية، وهي التي تتحضّر لإحياء ذكرى شهدائها مطلع أيلول المقبل وتحضّر لإنتخاباتها الداخلية.

كان لافتاً موقف رئيس تجمّع رجال الأعمال السعوديين اللبنانيين ايلي رزق من القوات اللبنانية وهو الذي رأى أنّ رئيس القوات سمير جعجع يصلح ليكون رئيس كشافة وليس رئيس حزب سياسي، لكونه لم يستطع أن يستثمر في الثّقة التي منحها الناس لحزبه في الإنتخابات النيابية، وهو الذي وعد الناخبين يومها أن "اعطوني أصواتكم لأغيّر في المعادلة".

كثيرون غيره يعتبرون أنّ القوات اللبنانية التي خرجت من الانتخابات النيابية بكتلة نيابية وازنة لم ترتق بحضورها السياسي إلى حجم كتلتها، فبقيت في الصفوف الخلفية من دون أن تملك سلطة تقريرية في أيّ من الإستحقاقات الراهنة، ولا تملك قرار التفاوض باسم المسيحيين كما حال التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل.

أكثر من الآخرين باتت القوات في حالة قطيعة مع الكلّ تقريباً


تقول مصادر سياسية "إذا اردنا مقارنة حجم الموقع السياسي والتأثير لحزب القوات اللبنانية بحجم كتلته النيابية أو حجم التأييد الذي ناله في الإنتخابات النيابية يظهر فرق شاسع. فالحزب الذي تقدم على التيار بعدد مؤيّديه يُسجّل عليه ضموره في الحياة السياسية ". يكفي ما قاله النائب السابق فارس سعيد للدلالة "شاطر جبران باسيل عما يمشيهم وراه". 

أكثر من الآخرين باتت القوات في حالة قطيعة مع الكلّ تقريباً. قاطعوا باسيل ثم تقاطعوا معه على ترشيح جهاد أزعور ثم قاطعوه، علاقتهم باردة مع السّنّة منذ أن اتّهمهم الرئيس سعد الحريري بالغدر به في السعودية، ومع "الثنائي الوطني" هناك تاريخ من القطيعة طويل، ولم تنجح معراب في الحفاظ على علاقة طيبة مع الإشتراكي.

وفي الوقت الذي كان حزب الله والتيار يحاوران بكركي وفرنسا، كانت القوات في الصفوف الخلفية وكأنّ لا تأثير لها في الرّئاسة، رشّحت النائب ميشال معوض ولم تستطع إيصاله الى بعبدا، ثم انتقلت إلى ترشيح جهاد أزعور ونجاح ترشيحه غير مضمون أيضاً. في الترشيح الأول كان الاتّفاق على أن يكون مناورة للضغط على فريق الممانعة إعلان مرشّحه بالمقابل، أمّا في التّرشيح الثاني فلم يكن خيار القوات بقدر ما تماهى بشأنه مع التيار الوطني الحر. لغاية اليوم لم تطرح القوات مرشّحها الثابت الذي تخوض معركته إلى النهاية.

ساكن معراب البعيد عن العين إلّا لمن يقصده، تراجع دوره في الاستحقاق الرئاسي وتأثيره في الحياة السياسية ليس تقريرياً. ميله للعب دور المعارضة منذ انسحاب وزرائه من حكومة سعد الحريري عام 2019 جعله في موقع الرّافض لكلّ شيء وبعيد عن كل شيء. بتعبير آخر لم يضف دور المعارضة لموقعه السياسي الكثير بقدر ما جعل حضوره على الهامش رغم حجم تمثيله النيابي والشعبي.

ليس سهلا ألّا يكون لكتلة وازنة ككتلة القوات مرشّحها، أو أن تستطيع التفاهم بشأن المرشّح مع أيّ طرف آخر. ربما هو دَرْس يُدَرّس في العلوم السياسية، كيف لرئيس حزب أن يكون على خصومة مع باسيل ويكون في عداد شاتميه في 17 تشرين، ثمّ يسير خلف مرشّح يقترحه ثم يقاطعه مجدداً إلى حدّ بلغ به وصفه في بكركي على أنّه "جثّة سياسية". دارت الأيّام دورتها، عاد التيار لموقع المفاوض عن المسيحيين مقابل تراجع القوات إلى موقع المعارضة. تراهن هي على تطوّرات إقليمية دولية تعيدها إلى سابق عهدها، يوم كانت حليفاً أقرب إلى المملكة السعودية . الحلف لا يزال قائماً لكنّ السّعوديّة تغيّرت، ولم يعد لبنان يدخل في سياق حساباتها، وجعجع الذي سبق وأخطأ قراءة اتفاق بكين الإيراني - السعودي، لم تتوافق حساباته مع الوقائع السياسية من حوله وغدرت به التسويات مراراً.

يقول المقرّبون أنّ مشكلة القوات هي في خطابها السياسي المحصور بالمسيحيين، فلم تعرف كيف تخاطب السّنّة أو الشّيعة أو الدروز. ويتابع هؤلاء حين كانت كتلة القوات ثمانية نوّاب كان تأثيرها أكبر، وحين صارت 15 نائباً كانت أيضا ذات حضور قوي، بينما حين زاد عدد نوّاب كتلتها إلى 20 نائباً تراجع تأثيرها في الحياة السياسية، لأنّها كانت في السّابق ضمن حركة سياسية متنوعة، وحين غدت بلا حلفاء حصدت نوّاباً بالخطاب المسيحي، لكنّها لم تعد ذات فعالية سياسية بدليل الإرباك الذي تسبّبه لها مؤخرا استقبال النائب كميل شمعون للنائب طوني فرنجية. للقوّات همّها المسيحي الذي راكمت بفضله عدداً أكبر من النواب، وخسرت الحضور بين بقية القوى الأسياسية، على عكس خصمها رئيس التيار الذي تُعزّز تحالفاته من حضوره وتمنحه دوراً اكبر.