كوع الكحّالة وإن يتمّ العمل أمنيّا على لملمة ذيول الحادث الذي شهده قبل أيام وأودى بحياة شخصين في تبادل لإطلاق نار واستنفار وقطع طرق، إلّا أنّ تردّدات ما جرى ستبقى طويلاً وأكثر من صوت الرصاص الذي نغّص ليل المحلّة والبلاد

أصبح واضحاً للجميع أنّ كلّ الأجواء الإيجابية التي حاولت أطراف عدّة في لبنان إشاعتها في موضوع الملفّ الرئاسي وقرب الوصول إلى خواتيمه، لم تجد لها تربة خصبة ولا من يرويها، على عكس أجواء التّشاؤم التي أعادت تجديد عدّتها وعديدها وحفرت في الأرض عميقاً وفي الوجدان.

كوع الكحّالة وإن يتمّ العمل أمنيّا على لملمة ذيول الحادث الذي شهده قبل أيام وأودى بحياة شخصين في تبادل لإطلاق نار واستنفار وقطع طرق، إلّا أنّ تردّدات ما جرى ستبقى طويلاً وأكثر من صوت الرصاص الذي نغّصَ ليل المحلّة والبلاد، وها هي الأصوات ترتفع من هنا وهناك وتتكاثر كما الفطر بعد المطر، تحريضاً وتخويناً، في وقت كان يُرتجى أن يشهد لبنان وقائع الحوار أو التشاور الذي دعت إليه فرنسا، وبات عنوان الحوارات الوحيد إطلالات تلفزيونية تفيض مزايدات واتهامات لا بل قلّ إدانات من دون محاكمات، فيما القضاء لم يخرج على اللبنانيين حتّى اليوم ولو براوية وقائع حول انفجار مرفأ بيروت الذي ولسخرية القدر صادفت ذكراه الثالثة قبل بضعة أيام. انفجار المرفأ الذي أودى بحياة أكثر من 220 شخصاً وإصابة نحو 6 آلاف آخرين وخسائر مادية بنحو 8 مليارات دولار، لم تُعرف حتى اللحظة رواية موحّدة لتفاصيله، فهل من يسأل عن حادث أسفر عن مقتل شخصين؟

لا داعي للخوض في تفاصيل ما جرى في منطقة الكحّالة، فكما جرت العادة في لبنان لكلّ طرف روايته للأحداث، ولكلّ جمهور أن يختار الرّواية التي تضمن له يقينه بصحّة خياره، أمّا الحقيقة والوقائع والأدلّة فلا مكان لها في بورصة الأحداث والتوظيف. وكل ما نشهده ونتابعه إنّما أوراق اعتماد في سوق العرض والطلب. الثابت الوحيد هو مقتل شخصين سيفتقد لهما أهلهما وأقاربهما ومن عرفهما. إسمان سينضمان إلى قافلة من أسماء رحلت في سبيل تحرير وبناء وطن كل منهم يريده على هواه، رحلوا وتركوا أرضاً تحكمها سلطة متهالكة تعتاش على الضرائب ودماء الفقراء، وشعوباً أقامت بينها حواجز نفسية أقسى من تلك السواتر التي أزيلت مع ما قيل أنّه نهاية الحرب الأهلية واتفاق الطائف الذي تحوّل هو نفسه إلى مادّة سجالية ودستوراً غير واضح المعالم قابل للتوظيف في مرويات كل طرف وبحسب ما يشتهيه.

ما حصل أخيراً في الكحّالة وقبله في مخيم عين الحلوة، بين طريق الجنوب وطريق بعبدا، لا بدّ وأنّه يفتح الباب أمام سيناريوهات جديدة للمرحلة المقبلة

وإن ذكرنا الأرض اللبنانية والشعوب التي تقطنها وتحمل جنسيتها لا يجوز أن نتجاهل وجود اللاجئين الفلسطينيين الذين ينتظرون حلّ قضيتهم وحقّهم بالعودة منذ العام 1948، رغم أنّ أغلب من بقي منهم لا يعرف فلسطين إلّا بالاسم ومن خلال الصور والحكايا، ولا النازحين السوريين الذين ينتظر بعضهم العودة إلى بلاده بعد إعمارها، أو الهجرة إلى الغرب بحثاً عن حياة أفضل، أو تغيير النظام في دمشق، أو البقاء في لبنان حيث المعونات الماليّة وفرص العمل لهم وسهولة التنقل بين البلدين بتغطية ودعم من المجتمع الدوّلي وتكاثر الأبناء الذين ولدوا في وطن الأرز.

"الكحّالة" هي منعطف خطر، وعلى أكثر من طريق، صحيح أن الطريق الأمنية أصبحت أقلّ اضطراباً وستتراجع حدّتها مع الوقت كما جرت العادة عند كل حادث، يعلو الصراخ ويخفت مع الوقت كما النّار التي يقطع عنها الهواء، وهو الهواء عينه الذي توفره الشاشات لكل هذا الصراخ. وإن كان ما سبق هو الحال الأمنية اليوم رغم خشية مصادر كثيرة متابعة من أنّ لبنان مقبل على المزيد منها، إلا أنها ليست أفضل من حال الطريق الاقتصادية والمالية، فحادثة "الكوع" أصابت السياحة في لبنان مقتلاً، ومن لم يترك ربوع لبنان عقب أحداث عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين وبيانات حث الرعايا على مغادرة البلاد، وجد نفسه اليوم مجبراً على حزم حقائبه والبحث عن مقصد سياحي لا يعكّر صفو سمائه رشقات نارية ومشاهد ضحايا تتساقط على الطّرق. أمّا طريق بعبدا الكحّالة فتلك هي الأكثر إثارة للاهتمام والتّرقّب، ومعركة الأمس رئاسياً كانت بين مرشّح يحظى بدعم حزب الله الذي تعود إليه الشحنة التي انقلبت فيها الشاحنة كما أحد الضحيتين اللتين سقطتا فيما الضحية الأخرى بما اقترفت يداه، ومرشّح حضر على الأرض من خلال الجيش الذي كان ناشطاً وفاعلاً ونجح بضبط الأمن وفتح الطريق ونقل الشاحنة وحمولتها. أمّا من استتر من المرشّحين فحضر في خطابات النواب وممثلي الأحزاب الذين حضروا واستغلّوا المناسبة لتصويب سهامهم في أكثر من اتّجاه وطرف.

ما حصل أخيراً في الكحّالة وقبله في مخيم عين الحلوة، بين طريق الجنوب وطريق بعبدا، لا بدّ وأنّه يفتح الباب أمام سيناريوهات جديدة للمرحلة المقبلة. فهل يمكن أن تخاض معركة الانتخابات الرئاسية على جبهة الثنائي الوطني ومرشّحه سليمان فرنجية بنفس الأدوات والشعارات التي كانت مستخدمة قبل ما جرى وما يترتّب عليه من نتائج؟ أمّا على جبهة المعارضة المسيحية وحلفائها فمن الواضح أنّها باتت تملك المزيد من الأوراق المساعِدة إن لم نقل الرابحة في معركتها لإسقاط المرشّح الخصم، فهل ستعمد إلى ترشيح شخصية بديلة عن جهاد أزعور قد تكون من صفوفها، أم أنّها ستعمد إلى تأييد ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي بدأت تميل الدّفّة الإقليمية لصالحه؟ وما بين الثنائي الشيعي والمعارضة المسيحية أيّهما سيختار التيّار الوطني الحرّ، وهل ستتواصل جلسات الحوار بينه وبين حزب الله وكأنّ شيئاً لم يكن، رغم أنّه يعتبر نفسه دفع الكثير من رصيده الشّعبي ثمن تقاربه مع الحزب الذي رشّح خصمه ولم يرضَ بمشورته. وإلى ما سبق من فرقاء يمكن إضافة التّغييريين الذين لا بد وسيتوزعون على ما سبق من محاور وخيارات أو أنّهم أو بعضهم بانتظار كلمة سر تهبط من عليّ، على أمل ألّا يهبط معها سقف الهيكل فوق رؤوس الجميع.