الصّراع على النيجر لن يكون سهلاً، ذلك أنّ باريس المطرودة من مالي وبوركينا فاسو نقلت قوّاتها إلى النيجر ولديها هناك 1500 جندي فرنسي
إذا تأكّدت التكهّنات والروايات عن تدخّل مجموعة "فاغنر" في الانقلاب الأخير في النيجر، تكون موسكو قد أكملت الهلال الروسي في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، بعدما اخترقت بوركينا فاسو ومالي وزرعت أوتادها في إفريقيا الوسطى والسودان وأثيوبيا. في المقابل تكون فرنسا، كبرى المستعمرين السابقين في القارّة السمراء، على عتبة خسارة أحد أهمّ مواقعها الإفريقية في حرب دولية على النّفوذ بين القوى الكبرى بدأت فعلاً ولا أحد في استطاعته التكهّن بنتائجها.
فرنسا لم تنظر إلى الدّول الافريقية التي انتزعت استقلالها عن باريس، كشريك لها أو كندّ ذي سيادة، بل تعاملت معها على الدّوام كمستعمرات سابقة يتعيّن مواصلة استغلالها، ولديها وظيفة محدّدة هي توفير الموارد الأوّلية واليد العاملة الرّخيصة بأبخس الأثمان، وعلى حساب مصالح شعوبها في الصّحّة والتّعليم ولقمة العيش. بهذا الأسلوب واصلت فرنسا دورها المركزي في إفريقيا، إلّا أنّ نفوذها راح يتراجع بشكل ملحوظ. فقد تهاوت جاذبيتها لدى الأفارقة بعدما فشلت في فرض الاستقرار في مناطق وجودها في القارّة، وأدّى انشغالها بمصالحها إلى تنامي العنف والحركات الإرهابية وتدهور الوضع الاقتصادي وطغيان الأنظمة التسلّطية.
وهذا ما دفع بالدول الإفريقية إلى الاستنجاد بقوى أجنبية أخرى منافسة لفرنسا أو للاستدارة صوب شركاء جدد خارج دائرة الاستئثار الفرنسي. صارت روسيا تمثّل البديل الأمني والصين وتركيا البديلين التجاري والاقتصادي في خيارات قادة هذه الدّول. وحقّقت الشّراكة الأمنية العسكرية الروسية البديلة لفرنسا نجاحًا في دعم الحكومة المنتخبة في جمهورية إفريقيا الوسطى وإعادة انتخابها مرّة أخرى، والتضييق على النّفوذ الفرنسي بشكل ملحوظ. وفعل الانقلابيون في مالي الأمر نفسه بتوقيع اتفاق أمني مع روسيا. كذلك حدث في بوركينا فاسو وصار الوجود الفرنسي في منطقة الساحل محاصراً بالكامل من المستشارين الروس و"فاغنر" المنتشرين في جمهورية إفريقيا الوسطى من الجنوب، وإقليم فزان الليبي من الشمال، وإقليم دارفور السوداني من الشرق، ومالي من الغرب؛ واكتمل الطوق الرّوسي على آخر المعاقل الفرنسية في تشاد بانقلاب النيجر.
لن تسلم دول كثيرة وفي مقدّمها الدول العربية الإفريقية من جرح النّيجر
لكنّ الصّراع على النيجر لن يكون سهلاً، ذلك أنّ باريس المطرودة من مالي وبوركينا فاسو نقلت قوّاتها إلى النيجر ولديها هناك 1500 جندي فرنسي كانوا لا يزالون يعملون على مساندة القوات الوطنية في القتال ضد الحركات الإسلامية الجهادية. كذلك ينتشر نحو ألف جندي أميركي في مدينة أغاديز التي تتخذها القيادة الأميركية في إفريقيا مقرّاً لعمليات الطائرات المُسيّرة في القارّة، وغالباً في الصومال وليبيا. إذن، ليس من السهل على أميركا وفرنسا الانسحاب من النّيجر وتركه يقع في الفلك الروسي على غرار مالي وبوركينا فاسو. وهذا ما دفع بباريس وواشنطن إلى تحريك دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "إيكواس" إلى الالتئام برئاسة حليف الغرب الرئيس النيجيري بولا تينوبو في 31 تموز الماضي، وتوجيه رسالة للانقلابيين في نيامي كي يفرجوا عن الرّئيس المخلوع حليف فرنسا محمد بازوم ويعيدوا البلاد إلى الحكم المدني، تحت طائلة التّدخّل العسكريّ.
وإذا ما عزمت "إيكواس" فعلاً على التدخّل العسكري، فإنّ هذه الخطوة قد تكون إيذاناً باشتعال إقليمي، لن تتأخّر القوى الكبرى عن الانجرار إليه. وفي الوقت نفسه، سيحظى التدخّل العسكري لـ "إيكواس" بتشجيع أميركي وفرنسي، ممّا يُهدّد بتكرار السيناريو الليبي عندما تدخّل حلف شمال الأطلسي لإسقاط نظام معمّر القذافي عام 2011.
عندها لن تسلم دول كثيرة وفي مقدّمها الدول العربية الإفريقية من جرح النّيجر. لهذا البلد أهمّيّة استراتيجية بالنّسبة للجزائر حيث تجمعهما حدوداً يبلغ طولها نحو ألف كيلومتر. كما أنّ البلدين عضوين في مجموعة الميدان التي تضمّ أيضاً كلّاً من موريتانيا ومالي، الأمر الذي قد ينعكس على التنسيق في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظّمة والهجرة غير النّظامية، إذ يتدفّق عبر النّيجر آلاف المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى الجزائر عبر الحدود المشتركة. كما أنّ النيجر تمثّل ممرّا مهمّا للجزائر نحو قلب إفريقيا، لاسيما مشاريع الطريق العابر للصحراء والذي يربط الجزائر بنيجيريا عبر النيجر، بالموازاة مع خطّ للألياف البصرية، وأنبوب لنقل غاز نيجيريا إلى أوروبا مروراً بالبلدين. كما أنّ مجمع سوناطراك الجزائري وقّع في شباط 2022، مع وزارة الطّاقة في النيجر، على اتفّاق لتقاسم الإنتاج في حقل "كفرا" النّفطيّ شمالي البلاد، والذي تقدّر احتياطاته بنحو 400 مليون برميل. كلّ هذه الاتفاقيّات والمصالح الاستراتيجية أصبحت مهدّدة بعد الانقلاب في النيجر.
ليبيا لن تكون أيضا بخير، فالرئيس بازوم، ينحدر من قبيلة أولاد سليمان الليبية، التي يمتدّ انتشارها من بلدة هراوة القريبة من مدينة سرت الليبية على البحر الأبيض المتوسط إلى وسط النيجر وتشاد جنوبا. وسبق لليبيا أن اختبرت عدم الاستقرار في النيجر، خلال السنوات الأخيرة، إذ عانت من مشاركة مجموعات مسلّحة من النيجر في القتال لصالح هذا الطرف أو ذاك. فبسبب الوضع الاقتصادي في النّيجر، يسهل على أطراف الصراع في ليبيا تجنيد مرتزقة للقتال في صفوفهم، أو على الأقلّ حماية حقول النفط والمراكز الحيوية في المناطق النائية لاسيّما في الجنوب. وإذا دخلت النّيجر في حالة عدم استقرار أو انجرفت نحو الفوضى، فإنّ ذلك سيدفع أعداداً كبيرة من سكّان النّيجر للفرار إلى ليبيا، التي لا تملك الإمكانات الكافية لحماية حدودها. ناهيك عن انتشار تجارة البشر على طول سواحلها الغربية القريبة من شواطئ مالطا وإيطاليا، على غرار زوارة وصبراتة، وتهريب الأسلحة والوقود، المنتشر على الحدود. لكنّ الأخطر من ذلك عودة عناصر تنظيم "داعش" للنشاط في ليبيا، بعدما تمّ القضاء على إمارتهم في سرت نهاية 2016، وفرارهم إلى دول السّاحل وحوض بحيرة تشاد ولاسيما نيجيريا. إذ أنّ تدهور الوضع في النيجر سيسمح للتنظيمات الإرهابية للنّشاط على محور نيجيريا النيجر ليبيا. فالنّيجر تمثّل نقطة عبور رئيسية للعناصر المتطرّفة بين معاقلها الرئيسية في العراق وسوريا وبين معاقلها الجديدة في نيجيريا وحوض بحيرة تشاد. ناهيك عن تجميد خطط ومشاريع لنقل غاز نيجيريا عبر البلدين، وربط كلّ من تشاد والنيجر وليبيا بخط للسكك الحديد.
السودان الجريح ليس لديه أيّ حدود مع النيجر، لكن بينهما بحر مفتوح من الرّمال وقبائل مترابطة عرقيّا أو مذهبيا . وأي انهيار للاستقرار في النّيجر سيغذّي الحرب في السودان، والعكس صحيح. والنّيجر بالذّات تعجّ بالمرتزقة والباحثين عن الذهب والمجد، وشاركوا بشكل بارز في الحرب بليبيا، إلى جانب مجموعات مسلّحة محسوبة على قوّات الدّعم السريع السودانية .وقبيلة المحاميد التي يتحدّر منها كثير من المقاتلين التابعين لقوات الدعم السريع لها امتداد في جنوب النيجر وبالضبط في ولاية ديفا، التي هاجروا إليها في بداية الثمانينات.