بدأ كنهار عادي ولكنّه لم ينتهِ حتّى اليوم، ورغم مرور 3 سنوات لا يزال عصف الانفجار يخلع قلوبنا من أماكنها كلّما عدنا بالذاكرة إلى تلك اللحظة.
بدأ كنهار عادي، صباح كغيره من صباحات بيروت التي أنهكتها الأزمات المتتالية وعلى اختلاف أنواعها وتصنيفاتها، حتى بدت وكأنّها جدران مهدّمة طليت على مدى السنوات الطويلة بألوان مختلفة تظهر طبقاتها المتنافرة في كلّ تشقّق أو تفسّخ أصابها كما أصاب الوطن تماماً. أو كأنها استعادة لصورة وسط بيروت قبل إعادة إعمارها التي انتهت بتهجير أهلها ومحو أسواقها وتحويلها إلى محمية غير طبيعية على خط الأزمات. كان اللبنانيون يعتقدون أنّه لم يعد ينقصهم سوى اصطدام نيزك بالأرض لتكتمل مصائبهم. لكنّه لم يخطر ببالهم أن النيزك كان في مرفأ بيروت وتحديداً في العنبر رقم 12.
بدأ كنهار عادي ولكنّه لم ينتهِ حتّى اليوم، ورغم مرور 3 سنوات لا يزال عصف الانفجار يخلع قلوبنا من أماكنها كلّما عدنا بالذاكرة إلى تلك اللحظة. تلك النظرات التائهة في عيون كلّ من حولك، نظرات تبحث عن إجابة لسؤال: ما هذا؟ حجم ما جرى كان أكبر من أن يجيب عليه إلّا الخبراء، بالطبع ليس هؤلاء الخبراء الذين يطلّون علينا عبر الشاشات المسطّحة وهم أكثر تسطيحاً منها… إنّما الخبراء عن حقّ، من يملكون الأجوبة. ولكنّ أغلب الأسئلة بقيت معلّقة حتى على الرغم من كمّ الخبراء الذين غصّت وتغصّ بهم الشاشات الصغيرة جدّاً والمسطّحة كثيراً.
انفجار، تفجير، صاروخ برأس نووي تكتيكي، مركز ذخيرة، تلحيم باب حديدي، نيترات الأمونيوم. تعابير ومصطلحات لا تعني أهالي الضحايا بشيء، رغم أنّ بورصة التّخمينات مستمرّة وتغصّ بها مواقع التواصل الاجتماعي بعضها "ما بيركب على قوس قزح" ولا صلة لقوس قزح هنا بأي ظاهرة أخرى قد تخطر ببال أحدكم. بعضهم قضى، بعضهم لا يزال مفقوداً، بعضهم خسر طرفاً أو حمل معه جرحاً، وبعضهم خسر قريباً. تلك الأم التي كانت تصف لون عيني ابنها، ذاك الأب الذي لم يكفه هول الانفجار حتى فجع بابنته، ذاك الأخ الذي خسر جناحه بل جناحيه، أغلبنا خسر بل جميعنا خسرنا، أشخاصاً وذكريات، خسرنا بعضاً من روحنا التي لا تزال تنزف كلّما مررنا بالمكان. قتلونا جميعاً يومها، كلّ واحد منّا قُتِل بشكل من الأشكال. وما نحن اليوم سوى أموات أحياء نعيش تلك اللحظة مراراً وتكراراً.
أخشى غالباً مشاهدة صور ما حصل، وأكثر ما يخيفني هي تلك الفيديوهات التي تظهر ذاك العصف الذي اجتاح المدينة، أشعر بتلك العاصفة تسري في عروقي، تهزّ وجداني تعيدني إلى ذاك المساء الذي أرخى بظلال الحداد فوق ليل المدينة المقتولة بآلاف المعارك والحروب والكراهية والحقد والأطماع.
بيروت نحن لا نستحقّك، ولا نستحقّ هذا الوطن الذي عرف القداسة فدنّسناه
بيروت التي كنّا أدمنّاها أدمتنا يومها أم أنّنا نحن من قتلناها حبّا، حبّ قاتل والكلّ يريدها له وحده دون سواه. كثيرة هي الحروب التي عاشتها، وعشناها معها، حروب في كل الاتجاهات، مع الخارج ومع الداخل، نزف يومي وتدمير ممنهج، سلام معلّب ثمنه مديونية قاتلة واقتتال مؤجّل. هي بيروت التي تقاتلنا عليها وأقمنا فيها سواتر ترابية وقطّعنا جسدها بأسلاك حديدية شائكة وزرعناها ألغاماً، حبّا بها لتكون وفق ما نشتهيه. هي بيروت نفسها التي اجتاحها شبان غاضبون بعد سنوات طويلة على آخر حروبها ليعيدوا إليها ذكريات عاشتها مراراً وتكراراً. بيروت التي شهدت انفجارا يعدّ من الأعنف في التاريخ، سبق أن كانت شاهدة على كلّ انفجاراتنا، وعنفنا ولا إنسانيتنا. تستحق بيروت أن يبتلعها البحر ليغسل ما اقترفناه بحقّها، تستحقّ مطراً يطهّر طرقاتها من آثامنا. بيروت نحن لا نستحقّك، ولا نستحقّ هذا الوطن الذي عرف القداسة فدنّسناه. بيروت التي لعنتها ذاك المساء وكنت ألعن نفسي وكلّ النفوس التي لم تستطع إنقاذك من قبضة الجهل والعصبية والإهمال.
لم ينته الأمر، التحقيق التقني لم يصدر حتّى اللحظة رغم أنّه كان يجب أن يصدر خلال أيّام، التحقيق الذي يحدّد المسؤوليات والمسؤولين لم يصدر أيضاً. تضارب صلاحيات أو أهواء، تأثيرات خارجية أو مطبّات هوائية، النتيجة واحدة لم ينته الأمر بعد. لم ينته ذاك النهار ولو أنّه بدأ قبل 3 سنوات. لعلّنا نعرف ذات يوم ما حصل وكيف حصل، ولماذا رحل من رحل وبقينا من دونه نبحث عنه وعنّا.
بيروت لا نستحقّك رغم كل الحبّ.