لم يعد خافياً على أحد رغبة طهران في بناء شبه توازن "معنوي"، أقلّه مع واشنطن، للتخفيف من وطأة العقوبات الأميركية والغربية المفروضة عليها منذ سنوات

أعلنت القيادة المركزيّة في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عن نيّة واشنطن إرسال طائرات “F35” من الجيل الخامس والمدمرّة“USS Thomas Hudner” لتدعيم تواجدها العسكري في كلّ من خليج عمان ومضيق هرمز، حيث كان قد وصل سابقاً تعزيزات قوامها طائرات “F16” من الجيل الرابع بالإضافة الى المدمرة “USS McFaul”. ورغم أن واشنطن لم تحدّد المدّة التي ستقضيها السفن الحربية في المنطقة، غير أنّها عزت السبب إلى مراقبة الأمن والمحافظة عليه وإلى دعم جهود الحماية لممرّات الشحن التجارية.

إلى مزيد من التّصعيد

الخطوة هذه وبحسب الأميركيين لم تأتِ من فراغ، بل هي تصدٍّ لمحاولة إيران مؤخّراً مصادرة ناقلتي نفط كانتا تمرّان في مضيق هرمز. هذا وترى واشنطن أنّ أيّ محاولة إيرانية للاستيلاء على بواخر تجارية قد تؤدّي إلى ارتفاع تكاليف أسعار الطّاقة بشكل كبير. علماً أنّ إيران قد استولت على حوالى خمس سفن تجارية في العامين الماضيين، بالتزامن مع تهديدات شبه دورية – إن لم نَقُل متواصلة - لناقلات النفط التي ترفع أعلاماً أجنبية.

من جهتها، لم تقف إيران مكتوفة الأيدي تجاه التحرّك الأميركي، لا بل قامت بتنفيذ مناورات عسكرية تحاكي هجوماً في منطقة الخليج العربي وتحديداً في مضيق هرمز. أضف إلى ذلك مناورات سلاح الجوّ التي أطلقتها في وسط البلاد لأكثر من مئة طائرة حربية مقاتلة وطائرات بدون طيار وقاذفات بعيدة المدى.

إذاً، يبدو أنّه، وعلى الرّغم من كافّة الإجراءات التي اتّخذت لخفض حدّة التصعيد بين الطرفين، لا تزال التوتّرات قائمة بين واشنطن وطهران. وما إرسال واشنطن لقوات عسكرية إلى الخليج العربي وإعلانها رسمياً عن إرسال المزيد من الطائرات الحربية والمدمّرات البحرية إلى المنطقة سوى خير دليل على ذلك.

فشل المفاوضات يحبط الرغبات

تزامناً، لم يعد خافياً على أحد رغبة طهران في بناء شبه توازن "معنوي"، أقلّه مع واشنطن، للتخفيف من وطأة العقوبات الأميركية والغربية المفروضة عليها منذ سنوات، والتي أدّت إلى عزلتها الكاملة تجارياً. الأمر الذي ترفضه الولايات المتحدة الأميركية وشركاؤها ما لم توافق إيران على تقديم تنازلات تتعلّق ببرنامجها النووي، وما لم تجهد للحدّ من نفوذ ميليشياتها المهدِّدة للمصالح الأميركية والغربية، لا سيّما في منطقة الشرق الأوسط.

صحيح أنّ محاولات حثيثة سابقة باءت بالفشل، غير أنّ المساعي الأميركية الأوروبية ما زالت جارية على قدم وساق لإعادة إحياء المحادثات بشأن برنامج إيران النووي. وكان آخرها الاتّصال الهاتفي الذي جرى نهاية تموز الماضي بين كل من وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكين، ووزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، لمناقشة سبل تحقيق زخم جديد لإعادة إنعاش التواصل بين واشنطن وطهران.

على المقلب الآخر، شهدت المنطقة العربية حراكاً دبلوماسياً لافتاً بين إيران ودول الخليج يهدف إلى تثبيت الأمن الإقليمي وتعزيز الثقة المتبادلة، في محاولة إضافية لكسر طهران لعزلتها الغربية. وتأتي هذه التطورات على صعيد العلاقات بين إيران ودول الجوار بعد الاتفاق الذي رعته الصين بين طهران والرياض، وهو الاتفاق الذي أعقب توقيعه عودة للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، كما أنّه أسفر عن خفض حدة التوتر والمواجهات حتى تلك التي كان اليمن مسرحها.

ويأتي التقارب السعودي الإيراني في وقت كانت الرياض فيه تأخذ مواقف لم تستسغها واشنطن، مثل الموقف السعودي من الحرب الدائرة في أوكرانيا، كما من خلال قرار أوبك خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً وهو ما كانت أميركا تعارضه بشدّة في ظل أزمة الطاقة العالمية.

فما تخشاه واشنطن اليوم هو التّحوّل بالمزاج العام في دول الخليج العربي، حيث خفتت الأصوات التي كانت تجاهر بالعداء لإيران، وتلك التي كانت تسارع إلى طلب دعم الولايات المتحدة الأميركية لبلادها ضد أيّ تحرّك إيراني. وبدا أن الشارع بات أقرب إلى التفاهم منه إلى الصدام، ما يؤشّر أن القواعد الأميركية في المنطقة لن تكون منصّات محتملة لضرب إيران في ظل رفض الدول المضيفة. فدول الخليج فتحَت صفحة جديدة مع طهران وهو ما صعّب المهمة على الغرب ولم تعد عملية حصار إيران بالمسألة السهلة.

المساعي كثيرة والمحاولات في تكرار مستمرّ، غير أنّ النتيجة واحدة: لا تَقدّم في المحادثات حتّى السّاعة حيث بقيت الموانع بين الطرفين قائمة من دون تغيير، مشكّلة حاجزاً محكماً أمام أيّ محاولة تعديل. هذا ما جعل إيران - الساعية لتحطيم قيود العقوبات وإعادة إنعاش اقتصادها والحفاظ على نفوذها في الخارج - تعتمد سلوكاً أكثر جرأة وصل إلى حدّ التصعيد ولو المضبوط أو المحدود أحياناً في أمكنة تتضاءل فيها القوة العسكرية الأميركية.

إلامَ ستُسفر نتائج المحادثات النووية التي ما زالت تتراوح في أفق شبه مسدود؟ فتلك إجابة لم تتّضح معالمها بعد. لكن من المؤكّد عدم رغبة واشنطن، كما طهران، الدخول في صراع مباشر في ما بينهما، حيث بات من المتوقّع أن تشهد الأشهر القليلة المقبلة مجرّد تصعيد محدود بين دبلوماسيي البلدين، لا أكثر.