القيسي: لبنان لم يصبح بعد بلداً نفطياً. ولم يتمّ اكتشاف مكمن واحد مشجّع لكي يُبنى عليه الصندوق السيادي.

في الوقت الذي يلفّ فيه "الفساد" المؤسسات، ويلتفّ على كلّ المبادرات ولد في لبنان الصندوق السّيادي للنّفط والغاز. أبصر الصندوق النّور، حتّى قبل أن "يحبل" الاقتصاد بمكمنٍ نفطيّ واحد، وواعد، على الأقلّ. فتح عينيه على بلد مصنّف الأكثر فساداً على الاطلاق ويحتلّ المرتبة 150/180 على مؤشّر مدركات الفساد للعام 2022. ولد لقيطاً، لا اتّفاق بين الأهل على المرجعيّة الدستوريّة التي ستسميّ مجلس إدارته.

في ظلّ الانهيار الحرّ، وفي غمرة التخبّط الماليّ والنقديّ، وفي عزّ العجز عن إحقاق إصلاح بنيوي واحد، أقرّت "لجنة المال والموازنة" النيابية، قانون الصندوق السيادي للنفط والغاز، بانتظار عرضه على الهيئة العامّة للتصويت عليه. انجاز يقابل بتحدّيات كثيرة.

ماذا يعني الصندوق السّيادي؟

باختصار، "الصندوق السيادي" هو كيان مملوك من قبل الدولة. يتكوّن من أصول (عوائد النفط والغاز، في الحالة اللبنانية). مهمّته إدارة الفوائض واستثمارها بالطّريقة الأمثل التي تضمن تحقيق النّموّ والتنمية. وبشكل يضمن حقّ الأجيال المستقبلية الاستفادة من الثّروات الطبيعية.

تفاصيل الصندوق اللبناني

بالنّسبة لصندوق لبنان، فقد أقرّت لجنة المال والموازنة توزيع عائدات الصندوق على الاستثمار والادّخار والتنمية. على أن تشكّل حصة الأخيرة حوالي 20 في المئة، وتذهب إلى المشاريع المنتجة (ليس الدّعم المباشر أو غير المباشر وبموازنة مقرّة). وأن تخصّص النّسبة الباقية من الموارد للاستثمار والادّخار. ولم يتضمّن الصندوق أيّ إشارة لاستخدام العوائد لإطفاء الدّين العام، أو سدّ الفجوة النقدية في مصرف لبنان والمقدّرة بأكثر من 72 مليار دولار كما طالبت جهات مصرفية واقتصادية عديدة خلال الفترات الماضية.

يتمتّع بالاستقلالين المالي والإداري

على غرار مختلف صناديق الثروة السيادية حول العالم، سواء كانت نفطية أو غير نفطية، أعطت لجنة المال والموازنة الصندوق اللبناني الاستقلالية الإدارية والمالية. وأوصت بتعيين مجلس إدارة من 8 أشخاص يتمتّعون بما لا يقلّ عن 10 إلى 15 سنة خبرة في المجالات الاقتصادية والقانونية والاستثمارية... وغيرها من الاختصاصات التي تكفل أفضل إدارة للصندوقة. ويعيّن من الأعضاء الثمانية رئيساً ونائباً له يتمتّعون بخبرة واسعة لا تقلّ عن 15 عاماً في مجال الاستثمار وإدارة المحافظ، التي لا يقلّ رأس مالها عن مليار دولار أميركي. ويعيّن الأعضاء بمرسوم في مجلس الوزراء لمدة خمس سنوات ويجوز إعادة تعيينهم لمرّة واحدة فقط.

من يسمّي مجلس الإدارة؟

النّقطة الإشكالية التي لم تجد لها لجنة المال والموازنة الحلّ كانت من يسمّي الأعضاء؟ هل يقدّم وزير المالية، الأسماء إلى مقام مجلس الوزراء، كما أتى في اقتراح نوّاب كتلة التنمية والتحرير. أم يكون رئيس الجمهورية هو من يقترح الأسماء كما طلب نواب "لبنان القوي" في مقترحهم. أم يكون هناك نظام مركّب لمجلس الإدارة شبيه بالشّكل المعمول في الهيئة الوطنية لإدارة قطاع النفط، حيث يعين الأعضاء ويتناوبون سنوياّ على الرئاسة إلى حين انتهاء ولايتهم، كما نصّ اقتراح اللقاء الديمقراطي؟

هذه النّقطة لم تحسم ومن المرجح أن توضع آليّة تعيين مجلس إدارة الصندوق في عهدة مجلس الخدمة المدنية، الذي يعود إليه درس الطّلبات، ومدى موافقتها للشروط الواردة في القانون والمعايير، ثم ترفع إلى مقام مجلس الوزراء.

 لبنان لم يصبح بعد بلداً نفطياً. ولم يتمّ اكتشاف مكمن واحد مشجّع لكي يُبنى عليه الصندوق السيادي.

ملاحظات الخبراء

يتطلّب إنشاء أيّ صندوق سيادي، الإجابة على السّؤال التالي: "ما الهدف من إنشاء هذا الصندوق؟" تقول الخبيرة في شؤون حوكمة الطاقة وعضو الهيئة الاستشارية للمبادرة اللبنانية للنفط والغاز LOGI ديانا القيسي. "والإجابة على مثل هذا السؤال لا تكون عبر البرلمانيين أو الوزراء المختصّين في الحكومة، أو بعض الأطراف السياسية، إنّما عبر مشاورات عامّة يشارك فيها كلّ الاختصاصيين وكلّ أصحاب المصلحة. وهذه المشاورات من شأنها أن تبيّن سبب أو هدف إنشاء الصندوق. وهذا ما لم يحصل في لبنان على مستوي واسع. أمّا التّركيز على الهدف؟ فهو لأنّ الجواب يبيّن لنا بوضوح كيفيّة تكوينه".


الأمر الثّاني والأهم، والذي دائماً ما ننبّه إليه كمبادرة لبنانية للنّفط والغاز هو "عدم الإسراع في إقرار قانون إنشاء صندوق سيادي في ظلّ إدارة أو حوكمة ضعيفة. ففي ظلّ مثل هذا الواقع يصبح الصّندوق السّيادي عرضة للاستيلاء عليه (السّرقة، توزيع منافعه على المحسوبيات السياسية والطائفية، تعيين أعضائه على قواعد الاستزلام. رهن قراراته بمصالح فئوية ضيّقة.. واللائحة تطول من ممارسات تعوّدنا عليها في إدارة الصناديق والمؤسسات والهيئات العامة في لبنان). فهذا الصندوق يتطلّب متابعة قوية، ومؤسسات قادرة على أن تحميه وتكون "ظهيره الخلفي". بعبارة أخرى، "يتطلّب إنشاؤه بيئة حاضنة إدارية وقانونية ومؤسساتية. وهذا ما ليس متوفّرا في لبنان"، برأي القيسي. "الأمر الذي يحرم البلد والاقتصاد من مواكبة عمل الصندوق، ومراقبته بشفافية ومساءلة القيّمين عليه".

ثالثاً لبنان لم يصبح بعد بلداً نفطياً. ولم يتمّ اكتشاف مكمن واحد مشجّع لكي يُبنى عليه الصندوق السيادي. "هناك فقط احتمالات نرفقها بالتمنّيات بأن يكون بحرنا يحتوي على ثروات نفطية"، تقول القيسي. "وحتّى لو أسفرت عمليّة الحفر المرتقب البدء بها هذا الشهر بعد شهرين أو ثلاثة عن اكتشاف مهمّ في حقل قانا. فإنّ هذا لا يعني أنّ المداخيل بدأت بالتدفّق إلى الصندوق السيادي، والإيرادات دخلت إلى الخزينة اللبنانية. فدخول الأموال يتطلّب بأفضل الحالات بين خمسة إلى سبع سنوات. مع ضرورة التذكير دائماً أنّ الايرادات التي ستدخل لن تكون كافية لإنقاذ لبنان. والشيء الوحيد الذي سينقذ لبنان هو الإصلاحات فقط".

لما العجلة؟

أمام كل ما تقدّم يبرز تعليق واحد وأساسي: "لما العجلة"، تسأل القيسي. "بالنّظر إلى كلّ الممارسات الجيّدة التي حصلت في مختلف الدول، يتبيّن أنّ انشاء الصناديق السيادية لا يتم إلا بعد نحو 20 عاماً بالمتوسط، على البدء فعلياً بإنتاج النفط".

يقول مثل شعبي، "من يخوض بحر هائجاً، سيبتلع الملح حتماً". وفي الحالة اللبنانية تبقى كلّ المبادرات، مهما كانت إيجابية، عرضة لـ "ملح" الفساد المستشري. والأجدى كان العمل على تنظيف البلد، وإصلاح قضائه وإداراته وحوكمة مؤسساته، والالتزام بالدستور.. وذلك كي لا تفسد الإيجابيات، أو تبقى حبراً على ورق في أحسن الأحوال.