صيرفة هي منصّة أنشأها مصرف لبنان وطوّرها على مراحل، بقصد بيع وشراء الدولار عليها، من قبل الصرّافين والمصارف
ماذا يحصل إن تمّ إيقاف "منصّة صيرفة" عن العمل؟ سؤال يؤرق المستفيدين من أفراد ومؤسسات، ويثير حشرية المطّلعين من بعيد على الوضع النّقديّ، ويطمئن خبراء إلى البدء أخيراً في مشوار الإصلاحات. إلى هذه الدرجة تحرّك "صيرفة" ذات العامين، التّناقضات في اقتصاد "مشلّع"، مفتوح على كلّ الاحتمالات.
للتوضيح فإنّ صيرفة هي منصّة أنشأها مصرف لبنان وطوّرها على مراحل، بقصد بيع وشراء الدولار عليها، من قبل الصرّافين والمصارف. ما يسمح بتحديد سعر الصّرف بشكل منطقيّ بعيداً عن المضاربات التي تحكم بقية منصّات التّسعير غير الشرعيّة. بدأت المنصّة عملها في شكلها الأخير في أيار 2021 على أساس سعر صرف 12 ألف ليرة للدولار، فيما كان السّعر في السوق الموازية 13 ألف ليرة. وقد عمدت السّلطة التنفيذية إلى ربط تسعير العديد من الخدمات المقيّمة بالدولار بسعر صرف المنصّة. فحدّدت الكهرباء والاتصالات والرسوم الجمركية (الدولار الجمركي) على أساس سعر الصّرف على المنصّة.
ماذا قدّمت "صيرفة"؟
انطلاقاً من هذا الواقع فإنّ إلغاء المنصّة سيفقد الوزارات مقياس التّسعير، وسيؤدّي إلى تراجع عائدات الخزينة"، برأي كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس نسيب غبريل. وعلى الرّغم من اقتناعه، بأنّ المنصّة لن تلغى ويتمّ إيقافها فجأة وبشكل كلّي فإنّ افتراض إلغائها سيترك انعكاسات سلبيّة جدّاً على الأوضاع الاقتصادية والنقدية والاجتماعية نظراً للأدوار المتعدّدة التي لعبتها المنصّة في الفترة الأخيرة وأبرزها:
- إضفاء الشفافية في الطّلب على الدولار.
- تحويل جزء من الطلب على الدولار من السّوق الموازية غير الشفافة والتي يتحكّم بها المستفيدون والمضاربون إلى المنصّة الرسميّة. مع التذكير أنّ السوق الموازي ظهر في أواخر أيلول 2019 عندما شحّت السيولة بالعملات الأجنبية جرّاء تراجع تدفّق رؤوس الأموال إلى لبنان.
- امتصاص الكتلة النقديّة المتضخّمة بالليرة وضخّ مقابلها الدولار. الأمر الذي يؤدّي إلى الحد من انهيار سعر الصّرف نتيجة ازدياد الطلب على الدّولار.
- زيادة رواتب 300 ألف موظف من القطاع العام شهرياً نتيجة تبديلها إلى دولار على سعر يقلّ بسبعة آلاف ليرة عن سعر السّوق الموازية. وبالتّالي دعم القدرة الشرائية في ظلّ غياب أي إجراءات أخرى للجم التضخم.
- مساعدة مئات الألوف من موظّفي القطاع الخاص أيضا.
- تشكيلها مقياس لتحديد أسعار العديد من الخدمات مثل الكهرباء والاتصالات والدولار الجمركي التي تُدخل شهريّا إلي الخزينة مبالغ كبيرة من الأموال.
- استطاعت المنصّة راهناً المحافظة على الاستقرار المؤقّت لسعر الصّرف وتخفّض الهامش بين سعر الدولار في السوق الموازية وسعر الصّرف عليها.
- دعم القدرة الشرائية لمئات الألوف من المواطنين.
- رفد الخزينة بمبالغ مالية جراء التسعير على أساس منصّة صيرفة.
وعليه فإنّ "إلغاء منصّة صيرفة سيؤدّي إلى توقّف كل هذه الفوائد"، من وجهة نظر غبريل مع العلم أن لا أحد يدّعي إنّها حلّ شامل، بل إجراء مؤقّت لغاية اعتماد التدابير الفعلية". ويشدد غبريل على أنّ صندوق النّقد غير معترض على مبدأ المنصة، بشرط إضفاء المزيد من الشفافية عليها. وهي لا تتناقض مع الإجراءات المسبقة المطلوب من لبنان تحقيقها في إطار التفاهم مع صندوق النّقد الدولي.
مضار صيرفة أكثر من فوائدها
على المقلب الآخر يرى الناشط المدني الدكتور جاد طعمة أنّ "التّهويل بارتفاع أسعار مختلف الخدمات التي تسعّر على صيرفة من كهرباء ودولار جمركي واتصالات ليس في مكانه. فأساسا لم يعد سعر الصّرف في السوق الموازية يختلف كثيرا عن سعر صيرفة، فالهامش بين السعرين لا يتجاوز خمسة آلاف ليرة. هذا من حيث الشّكل أمّا في المضمون فإنّ الهروب من توحيد سعر الصّرف باتجاه منصّات جانبية هو خطأ يودي إلى مراكمة الكثير من المشاكل ومخالف للقانون ويولّد الكثير من الأزمات. وكان الأجدى تحديد سعر صرف رسمي بقرار من مجلس النوّاب أياً كان هذا السعر، بدلاً من إنشاء منصّات وترك التحكّم بها للمضاربين الذين يحققون الأرباح على حساب ما تبقّى من أموال للمودعين واحتياطيات عملات أجنبية".
وبرأي طعمة إنّ "صيرفة هي عبارة عن ورقة ابتزاز أوجدها الحاكم رياض سلامة من أجل أن يبقى هو في قلب الحاكمية أو يتم التمديد له". وعليه فإنّ المنصّة شكلت هروبا من توحيد سعر الصرف خدمة للمصارف. فتوحيد سعر الصرف سيلزم المصارف تسديد الودائع بالليرة بقيمتها الحقيقية أو بحسب سعر الصرف الموحد والحقيقي. "وبالتالي فإنّ عدم وجود سعر صرف رسمي لا يهدف إلى خدمة المواطن، إنّما استمرار دعم المصارف احتجاز الودائع وتسديدها بأقلّ من قيمتها الحقيقية من دون أسس قانونية"، بحسب طعمة. ذلك مع العلم أنّ فلسفة وجود الدولة هي لحماية الطّرف الضعيف وليس القويّ. وليس لتخضع لابتزاز المصارف".
تبقى "المنصّة" طفل المنظومة الهجين الذي أطعمته الكثير من المنافع، وغذتّه بشراء صمت الموظّفين، وكبّرته بتجنّب الإصلاحات
صيرفة بالأرقام
بالأرقام يفنّد الباحث في الدوليّة للمعلومات محمد شمس الدين مخاطر صيرفة. فمن بعد إطلاق "صيرفة" أخذ سعر الصّرف في السّوق الموازية بالارتفاع، وتعمّق الفرق مع سعر المنصّة. وقد زادت عمليّات التداول على المنصّة إلى نحو 300 مليون دولار في الكثير من المحطات. فمثلا بلغ التداول يوم 3 كانون الثاني الماضي 310 مليون دولار بسعر ٣٨ ألف ليرة على المنصّة مقابل 48 ألف ليرة في السّوق الموازية الأمر الذي أدّى إلى تحقيق المتداولين المجهولي الهوية، وتحديداً لجهة المؤسسات أرباحا خيالية. وبحسب شمس الدين فإنّ "التّداول على صيرفة بلغ خلال شهر حزيران وحده 3115 مليون دولار. رافعاّ حجم التداول عليها منذ انطلاقها إلى أكثر من 23 مليار دولار". وبالنّظر إلى التّحليل والمعلومات فإنّ قسماً من الأموال المدفوعة على صيرفة أمّنه المركزي من التوظيفات الإلزامية التي تعود للمودعين، ويقدّر المبلغ بحوالي 4 مليارات دولار. فيما القسم الآخر تأمّن من خلال شراء الدولار من السوق. وعلى هذا الأساس فإنّ صيرفة أدّت إلى خسارة المودعين المزيد من الأموال من أجل دعم الليرة، وأدّى تدخّلها في السوق شارية للدولار إلى ارتفاع سعر الصّرف. وبالتالي تحقيق المزيد من انهيار القدرة الشرائية للمواطنين. وهي بذلك لا تختلف بشيء عن كلّ أشكال الدّعم التي أدّت إلى خسارة المودعين أموالهم وتعظيم أرباح حفنة من التجّار والمستفيدين. من دون أن ننسى أنّ العمولة التي تتقاضاها المصارف بنسبة 5 في المئة من أجل إتمام العمليات، أمّنت لها مداخيل تزيد عن 1.15 مليار دولار خلال عامين، وعوضتها مع العمولات عن انعدام الفوائد.
بغضّ النّظر عن الآراء المدافعة أو المنتقدة لصيرفة. تبقى "المنصّة" طفل المنظومة الهجين الذي أطعمته الكثير من المنافع، وغذتّه بشراء صمت الموظّفين، وكبّرته بتجنّب الإصلاحات، وحلّت ضرسه بشراء المزيد من الوقت، وشبكته بالمصالح العليا للدولة... حتّى "سمن". فأصبح إخراجه من الباب امراً شبه مستحيلاً بالطّرق الطبيعية، ويتطلّب تكسير حائط سميك من المصالح العامّة والخاصّة. وهذه هي سياسة الدّولة التي لم تتغيّر رغم الانهيار.