بولندا التي قرّرت أساساً اعتماد استراتيجيّة مناهضة لروسيا، وأن تكون إلى جانب أميركا وحلفاءها الغربيين وتحديداً المملكة المتّحدة، أصبحت حجر الزاوية للغرب، وكان التّهديد المتبادل بين روسيا وبولندا هو الدافع إلى العلاقات الأميركية الغربية مع وارسو...
فجأة ومن دون مقدّمات خطفت بولندا الأضواء من أوكرانيا وحربها، فقد جاء تصريح رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو عن رغبة مقاتلي فاغنر التوجه إلى بولندا، ليطرح الكثير من علامات الاستفهام حول ما تخطّط له روسيا التي حذر رئيسها فلاديمير بوتين، من أّنّ بلاده ستردّ على أيّ اعتداء على حليفتها بيلاروسيا، وذلك بعد نشر بولندا قوات على حدودها الشرقية.
وكشف بوتين عن تشكيل وحدة عسكرية بولندية ليتوانية أوكرانية لاحتلال أراضٍ بغرب أوكرانيا. وتحدث عن خطط للسيطرة على أراضٍ في بيلاروسيا منبّهاً إلى "أن هذا الأمر أشبه بلعبة خطيرة لا يتصوّر أصحابها العواقب التي ستترتب عليها". وكانت موسكو ومينسك أكّدتا مؤخّرا نشر روسيا أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا.
وشدد الرئيس البيلاروسي خلال لقائه نظيره الروسي قبل بضعة أيام أنه يسيطر على قوات فاغنر التي تريد الذهاب لبولندا، ولولا ضغوطه لتوجهوا إلى وارسو. وقال لوكاشينكو إن عناصر المجموعة يطلبون الاتجاه غرباً، "يطلبون مني الإذن للذهاب في رحلة إلى وارسو، إلى جيشوف (في بولندا)".
وشدد الرئيس البيلاروسي على أنّ تجزئة أوكرانيا وضم مناطقها الغربية إلى الأراضي البولندية أمر غير مقبول بالنسبة لبيلاروسيا، مؤكدا أنّه إذا لجأت بولندا إلى هذه الخطوة فإن بيلاروسيا ستقدم الدعم لسكان المناطق الأوكرانية الغربية بكل الطرق المتاحة.
هذه التطورات على الجبهة مع بولندا دفعت بالكثيرين إلى الغوص في تاريخ العلاقات الروسية البولندية وصولاً إلى يومنا الحاضر. ولا بأس في هذا الإطار من استحضار يوم 29 أيلول من العام 1939 حيث تمّ الاتفاق بين ألمانيا النازية والاتّحاد السوفياتي على ترسيم الحدود الجديدة وتقسيم بولندا. وفي 6 تشرين الأول من العام نفسه انتهى اجتياح بولندا وقسّمت أراضيها ثلث للسوفيات، وثلثين للألمان. وبعد تفكّك الاتحاد السوفياتي خلال العام 1991، بدأت العلاقات البولندية - الروسية الحديثة بعد أن استعادت بولندا سيادتها على كامل أراضيها مع حكومة ديمقراطية جديدة، ومن تاريخه تشهد العلاقات السياسية بين البلدين تقلّبات واضطرابات حيناً واستقراراً حيناً آخر.
روسيا كانت تمارس ضغوطًا شديدة على جناحها الغربي لبناء عمق استراتيجي لها، خوفاً من وصول حلف الناتو إلى حدودها وتحديداً حدودها مع أوكرانيا، وهذا أمر طبيعي. وفي المقابل فإنّ حلف الناتو الذي تمّ تشكيله كقوة دفاع مشتركة موحّدة بمواجهة السوفيات سابقاً، كان يعتبر أنّه لن يكون قادرًا على قيادة جميع الدول الأوروبية، وكانت بولندا بالنسبة إلى الحلف وتحديداً الولايات المتّحدة الأميركية، تمثّل عنصراً أساسياً بل ضرورياً لصدّ أيّ تقدّم روسي باتجاه أوروبا، فبولندا التي تزيد مساحتها عن 320000 كلم2 تمتلك جبهة مع روسيا الاتحادية الجديدة في حال اجتياحها لأوكرانيا وتقدمها من اراضي حليفتها بيلاروسيا. لذا فإنّ بولندا، وبدعم من الناتو، ستوفّر ممرّا يمكن أن تتحرّك من خلاله القوات الحليفة إلى دول البلطيق، أو جنوبًا باتجاه المجر ورومانيا. بعبارة أخرى، "بولندا" بالنّسبة للناتو والولايات المتحدة الأميركية خاصّة، هي خطّ الدفاع الاستراتيجي والصّلب والأخير عن حلفائها الغربيين في أوروبا.
بعد انتفاضة الشعب الأوكراني في العام 2014 ضدّ الرئيس فيكتور يانوكوفيتش المُوالي لروسيا، اعتقدت واشنطن أنّ إمكانية حدوث تقدّم روسي باتجاه أوكرانيا أصبح أكثر جدية وواقعية. كما اعتبرت موسكو الانتفاضة حدثًا تحوّليًا مهمّاً وبأنّ بولندا ستكون ذات أهمية كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية، حينها بدأت روسيا في إعداد وتنظيم جيشها خوفاً من أيّ مفاجأة، وعمدت إلى التقدم في أوكرانيا واحتلال أراضٍ منها.
من جهة أخرى فهمت الولايات المتحدة الأمريكية الاحتمالات طويلة المدى التي كانت روسيا تخطّط لها. وحاولت واشنطن التقرّب من دول أوروبا الشرقية التي عاشت واندمجت وكانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، لكنّ أغلب هذه الدول قرّروا البقاء بعيدًا عن أيّة مواجهة روسية - أميركية ما عدا بولندا.
بولندا... القوّة العسكرية الجديدة
بولندا التي قرّرت أساساً اعتماد استراتيجيّة مناهضة لروسيا، وأن تكون إلى جانب أميركا وحلفاءها الغربيين وتحديداً المملكة المتّحدة، أصبحت حجر الزاوية للغرب، وكان التّهديد المتبادل بين روسيا وبولندا هو الدافع إلى العلاقات الأميركية الغربية مع وارسو. وهكذا بدأت واشنطن والغرب بدعم بولندا لتصبح قوّة عسكرية مكتفية ذاتيًا من خلال توفير الأسلحة لها والتدريب عليها، بالإضافة إلى النشاطات الاستخباراتية المشتركة، وبناء البنى التحتية اللازمة لاستضافة وجود أمريكي وغربي عسكري محتمل وكبير في حال نشوب حرب.
بولندا، ستصبح حكماً قوّة عسكرية مهيمنة في أوروبا في العقود القليلة القادمة. فبتاريخ 5 تموز من هذا العام وقّعت الحكومة البريطانية ممثلة بوزير دفاعها بن والاس ووزير خارجيتها جيمس كليفرلي على شراكة استراتيجية ثنائية جديدة لغاية العام 2030 مع وارسو. وخلال التوقيع، قال "والاس" إن بولندا ستمتلك قريباً أكبر وأقوى جيش في أوروبا. وأشاد بدعمها للقوات الأوكرانية. كما أوضحت الحكومة البريطانية أنّ هذه الشراكة تعدّ استمراراً للتعاون المشترك بين البلدين لبناء الأجيال القادمة وتقوية موقف الرّدع والدفاع لحلف الناتو.
هدفت بولندا من خلال توطيد علاقتها مع أميركا والغرب إلى أن تكون فعلاً على سكّة الدول الغربية القوية، كون ذلك سيمنحها دورًا مهيمنًا في أوروبا عامة والشرقية منها خاصة. فمنذ عهد الرئيس باراك أوباما إلى الرئيس دونالد ترامب إلى الرئيس جو بايدن، تدفّقت المعدّات العسكرية وكثرت التدريبات حتّى الاستخباراتية منها، بشكل أنّها أصبحت بالفعل قوة عسكرية لا يستهان بها.
التدفّق الهائل للأسلحة وتدريبات وفّر للقوّات العسكرية البولندية قاعدة آمنة استطاعت إمداد أوكرانيا منها. كمّا أنّها أعطتها قوّة متاحة للمناورة شرقًا إذا لزم الأمر.
لكن بصريح العبارة، مهما تكن القوّة العسكريّة متينة ومتماسكة، وعلى اعتبارها حاجة استراتيجية أساسية لأميركا، يبقى الأساس في حفاظها على قوّتها وهيمنتها إذا صحّ التعبير، اعتمادها على قوّتها الوطنية وعلى منظومتها الاقتصادية، حيث أنّ الكلّ يعلم أنّ الاقتصاد هو السلاح الدفاعي والهجومي الذي يمكن الاعتماد عليه. يمكن لأيّ حرب ومهما تكن مدّتها أن تستنزف البلاد اقتصادياً حتّى لو انتهت بشكل إيجابي. لذلك يجب أن يكون الاقتصاد البولندي مستعدًا لاستيعاب الواقع كما هو. فهل يمكن وفق كلّ ما تقدّم أن تكون القوة البولندية قوة يمكن للناتو أن يعتمد عليها كخط دفاع استراتيجي أساسي أو أنّ بولندا باتت فعلاً تلك الصخرة التي يمكن أن تتحطّم عندها المشاريع والمحاولات الرّوسية. امتحان بولندا ينتظر بكلّ تأكيد ما ستؤول إليه المعارك في أوكرانيا.