اقترحت خطّة نوّاب الحاكم المقّدمة للجنة الإدارة والعدل إعطاء الدّولة قرضاً بقيمة 1.2 مليار دولار من أجل تلبية كلّ احتياجاتها، ولاسيّما لجهة تصحيح أجور موظّفيها، قبل أن يتمّ تغيير آليّة العمل على منصّة صيرفة وتحرير سعر صرف الليرة اللبنانية.

أخذني المزاح بين صاحب دكّان الحي، المعروف بحسّه الساخر، وأحد زبائنه، بعيداً باتجاه العلاقة بين الدّولة ومصرف لبنان. فبعدما تحوّج الزبون كمّاً من احتياجاته، قال لصاحب الدكّان: "سجّلهم عالحساب"، ليردّ الأخير: "نسجّلهم على لوح الثلج"، بما يعني أنّه دين معدوم، ولن يُردّ نظراً للحالة البائسة للزبون.

ما يجري بين الزبون الفقير، هاوي المقامرة، و"الدكنجي"، ما هو إلّا نسخة مصغّرة عن علاقة مصرف لبنان مع الدّولة اللبنانية. فالأخيرة لم تكتفِ من مراكمة دين بحدود 130 مليار دولار في حسابات مصرف لبنان (72 مليار دولار الفجوة المالية. 5 مليارات دولار سندات يوروبوندز يحملها مصرف لبنان. 16.5 مليار دولار دين على القطاع العام. 35 مليار دولار تعديل إعادة التقييم). لتعود الدّولة مرّة جديدة وتطلب الاستدانة بالليرة في مشروع موازنة 2023. و"يسيل لعابها" أمام طرح نوّاب الحاكم إعطائها قرضاً لمرّة أخيرة بقيمة 1.2 مليار دولار لمدّة ستّة أشهر. أمّا مصرف لبنان، فلم يتعلّم من "كفّ" الانهيار وتبديد أموال المودعين، ليستمرّ في خرق قانون النّقد والتسليف، وإقراض الدولة، بما تحمل من مواصفات الزبون الفاشل والمقامر وغير المنتج.

العودة إلى سندات الليرة وقروض الدولار الاستثنائية

أقرّت المادة الخامسة من مشروع موازنة 2023 الإجازة بالاقتراض. وقد نصّت الفقرة الأولى على "إصدار سندات خزينة بالعملة اللبنانية لآجال قصيرة ومتوسّطة وطويلة، وذلك بقرارات تصدر عن وزير المالّية". فيما نصّت الفقرة الثانية من المادّة الخامسة على "إطلاع وزارة المالية مجلس النواب فصليّاً على مجموعة من التطوّرات الماليّة، منها " نتائج إصدار سندات الخزينة بالعملة اللبنانية، كما بالعملات الأجنبية المجازة بقوانين خاصة. وعلى سلفات الخزينة". من الجهة الثانية اقترحت خطّة نوّاب الحاكم المقّدمة للجنة الإدارة والعدل إعطاء الدّولة قرضاً بقيمة 1.2 مليار دولار من أجل تلبية كلّ احتياجاتها، ولاسيّما لجهة تصحيح أجور موظّفيها، قبل أن يتمّ تغيير آليّة العمل على منصّة صيرفة وتحرير سعر صرف الليرة اللبنانية.

شروط الاستدانة غير متوفّرة بالليرة والدولار

ما غاب عن بال مقترحي إقراض الدّولة أنّ "هناك شروطاً خاصّة ومعقّدة جداً في قانون النّقد والتّسليف للقيام بمثل هذه المهمّة"، يقول الخبير في شوون الماليّة العامّة غسان بيضون. "ويتطلّب الإقِراض الاطّلاع على أحوال الموازنة، وألّا يشكل المبلغ المقتطع أكثر من 10 في المئة من أرقام الموازنة. والأهمّ أن يكون المبلغ المراد إقراضه متوفّراً لدي مصرف لبنان". وبالفعل تنصّ المادّة 90 من قانون النّقد والتّسليف على أنّه "باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها بالمادتين 88 و89، فالمبدأ ان لا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العام." وبحسب المادة 88 المذكورة، فإنّه "يجاز للمصرف أن يمنح الخزينة، بطلب من وزير المالية، تسهيلات صندوق لا يمكن أن تتعدّى قيمتها عشرة في المئة من متوسط واردات موازنة الدّولة العادّية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها، ولا يمكن أن تتجاوز مدّة هذه التسهيلات الأربعة أشهر". كما وإذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي في الظروف الاستثنائية الخطورة، أو في حالات الضّرورة القصوى، فالمادة 91 من قانون النّقد والتسليف تشترط التالي:

- يدرس المصرف مع الحكومة إمكانيّة استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي أو عقد قرض خارجي أو إجراء وفورات في بعض بنود النفقات الأخرى، أو إيجاد موارد ضرائب جديدة الخ...

- فقط في الحالة التي يثبت فيها إنّه لا يوجد أي حلّ آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب.

- حينئذ يقترح المصرف على الحكومة، إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ ممّا قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة وخاصّة الحدّ من تأثيره، في الوضع الذي أعطي فيه، على قوّة النّقد الشرائية الداخليّة والخارجيّة.

انعكاسات الإقراض

بحسب ما تقدّم من مواد، يتبيّن أنّ الدّولة لا تستوفي شروط الاقتراض. فلا خيار أمام مصرف لبنان إلّا طباعة الليرة لتمويل سندات الخزينة خصوصاً في ظلّ إحجام المصارف وبقيّة القطاع الخاص عن الاكتتاب"، يقول بيضون. "وهو ما ينعكس سلباً على قيمة الليرة وقوّتها الشرائية، ويتسبّب بالمزيد من انهيار قيمتها". وفي حال إعطاء القروض بالدّولار فإنّ "الأموال ستتأتّى ممّا تبقى من توظيفات إلزامية تعود للمودعين". فميزانية المصرف المركزي كميزانية أيّ شركة أو مؤسسة تتضمّن الشيوع. بمعنى عدم جواز تخصيص إيراد معين لتغطية نفقات معينة. وبالتّالي كان من المفروض إقرار قانون" الكابيتال كونترول" لتنظيم استعمال السيولة المتاحة وعدم التفريط بها لاي سبب كان". وبرأي بيضون هناك حقوق السحب الخاصة وقروض من البنك الدولي.. وغيرها من المصادر التي يجب التصرّف بها بعيدا عن استعمال حقوق المودعين".

إنّ جيب الدولة "مثقوب"، والأموال تضيع في مزاريب الهدر والفساد من دون أن تؤدي الغاية الحقيقية منها. وهو ما يمثل أعباء إضافية نحن في غنى عنها

العجز عن رد الديون

المشكلة الثّانية أنّ الدّولة لا تستطيع ردّ الديون سواء كانت بالليرة أو الدولار. ومما يتبيّن من موازنة 2023 أنّ حجم العجز يبلغ 37 ألف مليار ليرة. و"ولا يوجد أرقام موثّقة ومدقّقة حول المبالغ المحصّلة الواردات. ولاسيما المتعلّقة بالعام 2022 من بعد ما جرى تغيير قيمة الرسوم الجمركية والضرائب الأخيرة التي فرضتها الدولة"، يقول بيضون. ولم يكن ربط الدستور بين إقرار قانون الموازنة وبين إقرار قطع الحساب عبثياً. فالأخير يُوضع ليقنع المشترع أنّ النفقات سيتم تغطيتها من الواردات بناء على ما تمّ تحصيله أو تحقيقه خلال السنوات الماضية. وهذا ما لم يكن يحصل". وعليه فإنّ الانحراف بين النفقات، وما يتمّ تحصيله شاسع وهائل ويخالف كلّ الوعود التي تقطع بالتحصيل. والخطورة برأي بيضون تتمثّل "في فلتان المال العام. وعدم تصريح أصحاب الأعمال عن الحجم الحقيقي للضرائب. ولاسيّما لجهة الضّريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية.

علاقة "من العبّ للجيبة" التي طالما حكمت التّعاطي بين مصرف لبنان والدّولة لم تعد مقبولة. فعدا عن مراكمة مليارات الدولارات من الدين العام على كاهل الجيل الحالي والأجيال اللاحقة، فإنّ جيب الدولة "مثقوب"، والأموال تضيع في مزاريب الهدر والفساد من دون أن تؤدي الغاية الحقيقية منها. وهو ما يمثل أعباء إضافية نحن في غنى عنها.