هو الفراغ إذا الذي أصاب السلطة وبدأ يتسلّل إلى المؤسسات ولاسيّما العامّة منها...

مع نهاية الشهر تُطوى صفحة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وسياساته المالية بعد ولاية استمرت منذ العام 1993 وحتّى يومنا هذا، ما يخوّله دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية، وهي الجائزة الوحيدة التي قد يستحقّها بالفعل خصوصاً أنّ كل الجوائز التي تسلّمها كأفضل حاكم مصرف مركزي لا معنى لها في ظلّ الانهيار المالي الذي تعيشه البلاد واستناداً إلى كل تصريحاته حول قوة الليرة اللبنانية وثبات العملة الوطنية التي استمرت حتى لحظة الانهيار الكبير.

وقد يكون من اللائق أيضا منحه جائزة ابتداع طرق تتيح للسلطة السياسية تسيير شؤونها وامتصاص نقمة أتباعها، مثال منصة صيرفة والمضاربة في عمليات بيع الدولار وشرائه لعبة تثبيت سعر الصرف. وبانتظار فراغ موقع حاكم مصرف لبنان وتوقع أن يتولّى نائبه الأول وسيم منصوري مهامه، أطلّ علينا نواب الحاكم، وهم أربعة، يلوّحون بالاستقالة في حال لم تتم تلبية مطالبهم المتّصلة بتشريع بعض إبداعات الحاكم، وهو ما يعني أنها قابلة للطعن والتشكيك بقانونيتها، واللافت أن النّواب الذين غابوا طويلاً عن الصورة ظهروا وكأنهم معارضين لسياسات الحاكم وممارساته، أقلّه بعضها المشكو منها. وهذا ما يدفع إلى سؤال حول ما كانوا يقومون به من تغطية لإجراءات لا يوافقون عليها. ويقول البعض أن التلويح بالاستقالة يستهدف الحصول على المظلّة نفسها التي كانت تقي الحاكم حرّ الشمس وزخّ المطر. وإلّا فإنّهم قد يستقيلون ويستمرّون بتصريف الأعمال. ولا بأس طالما أنّ شؤون البلاد أصلا تسيّرها حكومة مستقيلة لا يحضر جلساتها عدد كبير من وزرائها. وحال المجلس النيابي ليس بأفضل فهو ورغم أنه انتخب حديثاً إلا أنّه لم يمارس دوره بعد في تسمية رئيس للحكومة، لأنّه لم ينجح حتى اللحظة بانتخاب رئيس للجمهورية. وهناك لغط قانوني معطوف على دستوري حول صلاحيات المجلس النيابي التي يفترض أن تكون محصورة بجلسات الانتخاب الرئاسية على ما يقول البعض.

وفيما يبدو الحوار الذي كانت تروّج له فرنسا قد أرجئ إلى أجلٍ غير مسمّى، نتيجة معطيات وتطوّرات أُشبعت تخيّلات وتحليلات. يبقى المستجدّ فيها ما نشطت الأقلام بالترويج له عن رصيد يتضاعف لتسمية قائد الجيش العماد جوزيف عون لموقع الرئاسة، مع العلم أنّ هذا الأمر دونه محاذير دستورية عدّة. والأهم أنّ موقع قيادة الجيش هو نفسه معرّض للفراغ إذا لم يصر إلى انتخاب رئيس للجمهورية قبل بلوغ العماد عون سن التقاعد مطلع العام المقبل.

وإذا كنا استعرضنا المواقع والمناصب الأكثر تأثيراً إلّا أننا يجب ألّا ننسى شغور العديد من المواقع والمناصب الأخرى في المؤسسات العامة، وإن تعدّدت الأسباب. وأخطر ما في المسألة ليس تلك المواقع التي شغرت بفعل انتهاء الولاية أو الوفاة بقدر تلك التي تشغر نتيجة ترك الموظف علت رتبته أو دنت، لعمله واختيار العمل في الخارج. فما حدث منذ بدء الانهيار المالي الذي أصاب البلاد هو موجة هجرة غير مسبوقة شملت قطاعات وتخصصات مختلفة، وهي ظاهرة مرشّحة للاستمرار والاتساع مع تسارع الانهيار وعلى وقع التهويل الخارجي والعناد الداخلي في مسائل عدة لا يمكن اختصارها بأزمة مالية أو استعصاء دستوري تشريعي.

هو الفراغ إذا الذي أصاب السلطة وبدأ يتسلّل إلى المؤسسات ولاسيّما العامّة منها. وإلّا فماذا يعني الاكتفاء بموظف واحد ليقوم بعمل خمسة موظفين بسبب الواقع المعيشي والمالي، وهو تدبير تمدّد إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية أيضاً.

ليس من الظلم الحديث عن فراغ في السلطة التي أنّبتها سفيرة قبل أيام ولم يخرج عليها مسؤول ليرفض أقلّه أسلوب التخاطب

ليس من الظلم الحديث عن فراغ في السلطة التي أنّبتها سفيرة قبل أيام ولم يخرج عليها مسؤول ليرفض أقلّه أسلوب التخاطب. وقبل كلام السفيرة كان القرار الذي صوّت عليه الاتحاد الأوروبي بشأن الوضع في لبنان وخصوصاً موضوع النازحين السوريين. فجاء القرار أشبه بفرمان السلطان الذي رسم للأحزاب والأطراف في لبنان خريطة طريق وفق خطوط حمر ولم يُسمع أيّ ردّ رسمي على مستوى القرار الأوروبي، فيما شوهدت السيادة اللبنانية تبكي في الزاوية.

جرت العادة أن يعمد اللبنانيون إلى ابتداع الحلول لأزماتهم اليومية، حيث لا ماء حضر الصهريج، وحيث لا كهرباء حضر المولّد، ارتفعت كلفة المولّد حضرت ألواح الطاقة الشمسية، ارتفعت كلفة الاتصالات حضرت بطاقات اتصال متعدّدة الجنسيات، وحيث لا قانون حضرت الوساطات والرشاوى. وفّر المواطنون على الدولة الكثير من الجهد في البحث عن حلول. واليوم مع تزايد أعداد المهاجرين من أبناء الوطن يبدو أن الحلّ جاهز ولا بأس في أن يكون عبر النازحين. تحت شعار دمجهم في المجتمعات المضيفة، وفي ظلّ عدم جهوزية الدولة السورية لاحتضانهم وتوفير المساكن والبنى التحتية والعيش الكريم لهم في بلادهم، لا بأس في بقائهم في لبنان حيث يتحمل وزر أزمتهم هذا البلد المأزوم أصلاً والمرشّح لمزيد من الـتأزم.

بالعودة إلى الحديث عن الفراغ في المواقع قد يحلو للبعض السؤال في الختام: ولماذا لا يأتون لنا برياض سلامة رئيساً للجمهورية؟ فالرّجل لطالما كان يعدّ نفسه لهذا المنصب بحسب ما وعدوه أو صُوّر له فعمل على إرضاء كلّ من يستطيع أن يسهم في إيصاله إلى بعبدا، فيما من أرضاهم يوماً يعملون اليوم للحؤول دون وصوله إلى رومية. لا شكّ أن بعبدا تدغدغ أحلام العديد من "المرشحين الطبيعيين وغير الطبيعيين".