عادت عمليات اقتحام المصارف لتطلّ بوجهها من جديد، بالتزامن مع احتدام الخلاف على مصير حاكميّة المصرف المركزيّ.

تقصّد المنظومة إهمال الإصلاحات الجوهريّة واعتماد "خطّة الظلّ"، دفع بالمودعين إلى تحصيل حقوقهم بأيديهم. أربع سنوات يتسوّلون "فتات" مدخّراتهم، ويشاهدون بأمّ العين تناقص الودائع، تهريباً وتبذيراً، وليس في يدهم حيلة لاسترداد حقوقهم. السّواد الأعظم من المودعين "تدجّن" مع سياسة التخدير المتّبعة، وأقلّيّة "تتمرّد" محاولة انتزاع حقّها، ولو بتعريض حقوق وأرواح بقيّة المودعين للخطر.

عادت عمليات اقتحام المصارف لتطلّ بوجهها من جديد، بالتزامن مع احتدام الخلاف على مصير حاكميّة المصرف المركزيّ. اقتحامان في غضون يومين؛ الأوّل نفّذه مودع يحمل قنبلة يدويّة حارقة، "مولوتوف"، على أحد فروع "بنك الموارد"، للاستحصال على وديعة بقيمة 15 ألف دولار. والاقتحام الثاني نفّذه مودع آخر بقنبلة حربية متفجّرة في فرع لمصرف "الاعتماد اللبناني".

تحصيل الوديعة بالقوة ليس حلاً

ما يدعو للتعجّب من الواقع الذي وصلنا اليه، هو أن لا الاسم التجاري للمصرف المُقتحم يقدّم أو يؤخّر، ولا هويّة المودع تهمّ. فكما "كلّ شيء عند العرب صابون"، على حدّ قول المثل الشهير، فإنّ كلّ المصارف تتشارك سمعتها السيئة وعدم امتلاكها للودائع. أمّا بالنّسبة إلى المودعين، ولاسيما الصغار منهم، فيتشاركون، على تنوّع أسماء مصارفهم، المصير نفسه، ولو اختلفت الأرقام في الحسابات. وفي الحالتين فإنّ "الاقتحامات ونيل الودائع بالقوّة لن تحلّ الأزمة الهائلة، ولو كان من حقّ المودعين الحصول على أموالهم"، بحسب نقيب موظّفي المصارف أسد خوري. بل العكس فإنّ حصول المودعين على ودائعهم، سواء كان بالقوّة أم بالدعاوى القضائية، التي تُرفع في الخارج تحديداً، أو بأيّ طريقة أخرى.. سيفاقم المشكلة أكثر وسيعرّض بقيّة المودعين للظلم. "فالطريقة المعتمدة لا توصل كلّ صاحب حقّ إلى حقّه أبداً"، يؤكد خوري. "وهي تهدّد حياة الموظفين وتعرّضهم مع من يتواجد في المصرف للخطر".

اقتحامات المصارف التي مرّت جميعها لغاية الآن من دون تعرّض أحد للأذى، قد تنقلب في أيّ لحظة "رأساً على عقب"، وتؤدّي إلى ما لا تحمد عقباه. وهو الأمر الذي "يفرض على السّلطة التنفيذية وبقيّة السلطات الممسكة بشؤون البلد أن تجد حلّاً وسطاً بين المصارف والمودعين"، يقول خوري. "بمعنى، الإقرار بأنّ إمكانية إرجاع الودائع كاملة بقيمتها الحقيقية غير ممكنة، وبالتّالي العمل على إعادة ما يمكّن المودعين أقلّه من العيش بكرامة، إلى حين إيجاد الحلّ النهائي. وهذا مع الأسف ما لم تقم به السّلطة رغم مرور أربع سنوات على الانهيار. مع العلم أنّ حصة المودعين من إجمالي الموجودات في القطاع المصرفي بتاريخ اندلاع الأزمة كانت تفوق بأضعاف ما هو متوفّر اليوم". ومع هذا لم تجد السّلطة في الماضي القريب طريقة تمكّن من استعادة المودعين الحدّ الأدنى من الأجر الحقيقي لكي يتمكّنوا من العيش. "فالمودع الذي يملك 50 ألف دولار في المصارف أو 5 ملايين دولار بحاجة إلى استرداد ما يمكّنه من العيش بكرامة"، بحسب خوري. وكان الأجدى بالسّلطة وضع خطّة لإعادة الأموال من الاحتياطيات (33 مليار دولار)، ومن القروض (38 مليار دولار). بدلاً من ذلك جرى تبديد 22 مليار دولار من الاحتياطي الإلزامي على الدّعم وخلافه، وتسديد 29 مليار دولار من القروض على سعر صرف غير حقيقي. وفي المحصلة فوّت عدم اعتماد خطّة الاستفادة من 51 مليار دولار، كان يمكن أن تعيد مع بقية الموجودات، قسماً كبيرا من أموال المدعين بقيمتها الحقيقية. وهذا ما لم يحصل.

اقتحامات المصارف التي مرّت جميعها لغاية الآن من دون تعرّض أحد للأذى، قد تنقلب في أيّ لحظة "رأساً على عقب"، وتؤدّي إلى ما لا تحمد عقباه.

الاقتحام عمل فرديّ

أمام هذا الواقع وجدت مجموعة من الدّاعمين لقضايا المودعين نفسها في موقع "تقديم خدمة للشعب اللبناني انطلاقا من تحصيل حقّ بعض المودعين"، برأي خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي. "ووضعت المجموعة نفسها بتصرّف المودع الذي يملك الرّغبة والقدرة على اقتحام مصرف. وما يسهّل هذه العمليات هو غياب الرّقابة وضعف الأمن على فروع المصارف، وتعاطف القوى الأمنية مع قضايا المقتحمين، انطلاقاً من الواقع المادّي المذري الذي يجمعهما في نفس الخانة". وبحسب فحيلي فإنّ "مقتحم بنك الموارد حصل على 35 ألف دولار زيادة عن قيمة وديعته، فأبقى على حصّته المقدّرة بـ 15 ألف دولار وسلّم الباقي للقوى الأمنية، وانتهت المسألة". وباعتقاد فحيلي فإنّ "لا الدّولة ولا القضاء ولا أيّ جهة مسؤولة أخرى تبدي رغبة جدّيّة بالمحاسبة. فيبقى الاقتحام رهن رغبة المودع بدخول المصرف ومحاولة تحصيل حقّه بالقوّة".

هل من مؤامرة؟

على المقلب الآخر تصف بعض الأصوات تجدّد عمليات الاقتحام بـ "غير البريئة". معتبرة أنّ "أمر العمليّات بالتّصعيد، يأتي من المصارف نفسها بشكل مباشر، بهدف إيجاد مبرّر للإقفال وتخفيف الضغط عليها". جمعية المصارف التي نفت في بيان نيّتها بالإقفال، أو بتدبيرها الاقتحامات على فروعها، لم تنفِ في المقابل نظريّة المؤامرة، التي هي براء منها. وقد قالت

"بالأمس تمّ إشاعة أخبار عن نيّة المصارف إقفال فروعها، فقامت المصارف بتكذيبها، ضنّاً منها بمصالح المودعين وبهدف تأمين استمرارية خدماتها لهم. فما كان إلّا أن تتابعت الاعتداءات وكأنّها ممنهجة لتدفع بالمصارف إلى الإقفال". وأضافت في بيان أنّ "تساهل الدّولة ومؤسّساتها بالتعامل مع المعتدين رغم تهديدهم حياة الموظّفين يشجّع المعتدين على الاستمرار بفعلتهم، وكأنّ المطلوب هو إقفال المصارف لفترة غير محدّدة". فمن هي الجهة التي يصبّ في مصلحتها إقفال المصارف ولأيّ غرض؟ لا جواب من أحد.

من جهته يشجب فحيلي نظريّة المؤامرة. وبرأيه فإنّ المصارف أمامها ما يكفيها من مشاكل. خصوصاً إن تم تغيير قواعد العمل على صيرفة، مع ما سيسبّبه الأمر من تراجع كبير في العمولات التي تستحصل عليها. وهي بغنى عن إضافة المشاكل على مشاكلها. ويعتقد فحيلي إنّ "أهمّ ما قد يأتي في المرحلة المقبلة هو فرز المصارف بين قادرة وغير قادرة على الاستمرار بخدمة الاقتصاد. ويجب أن تترافق هذه المرحلة مع تحويل نوّاب الحاكم ملفّات المصارف إلى الهيئة المصرفية العليا ووضع مدراء مؤقّتين على المصارف غير القادرة على الاستمرار في خدمة المودع والاقتصاد".

إلى ذلك شدّد نقيب موظّفي المصارف أسد خوري على أنّ "الموظّف خطّ أحمر"، ممنوع على أيّ كان استباحة كرامته، والتهديد بإزهاق روحه، كائناً من كان. فالموظّف المصرفي ليس هو المسؤول عن عدم إرجاع الودائع، وهو ينفّذ ما يطلب منه لخدمة المودعين. ذلك على الرّغم من تدنّي راتبه بشكل كبير. فعلى عكس بقيّة موظّفي القطاع الخاص الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار، فإنّ راتب الموظف المصرفي وتعويضه ما زال بالليرة اللبنانية. "وهو يتساوى بالمعاناة مع موظّف القطاع العام"، يؤكّد خوري.

ويبقى أنّ مراقبة شكل الأحداث وتراتبيّتها من مسافة بعيدة يقود إلى حقيقة وحيدة:

المنظومة تضع الفقراء في مواجهة الفقراء، فيما يجلس أركانها في مكاتبهم الفاخرة يتفرّجون.. وربّما يضحكون أيضاً.