الحوار الذي بدأ يتردّد صداه ولو تم وصفه بالمملّ، قد ينطلق من اتفاق الطائف لقطع الطريق على الحديث عن مثالثة بين المِلل، ولكن الخشية هي أن يعود الخلاف حول إلغاء الطائفية السياسية من النصوص قبل النفوس أو العكس...
لافتة كانت كلمات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله حين عبّر عن الملل من الحديث عن الحوار، وأصاب حين قال أن الناس ملّت، ولو أراد أن يكون أكثر دقّة لربما كان عليه أن يقول أنّ النّاس كفرت بالحوار، رغم أنّه عاد ولفت إلى أنّ البلد على كل حال كلّه في حالة انتظار وهذا الحراك الوحيد الطبيعي المنطقي اليوم.
عاد الحديث عن الحوار "المملّ" إذاً ليتصدّر المشهد اللبناني، موقف نصرالله الأخير والذي أكّد فيه أنّه "لا يوجد حلّ إلّا أن نجلس ونتفق، لا حلّ آخر، لا أحد يجبر الآخر... وعندما يكون هناك استعداد للحوار في البلد، نحن اعتبرونا جاهزين للحوار بلا قيد وبلا شرط وفي أيّ وقت وفي أيّ زمان وفي أي مكان، ليس لدينا مشكلة بهذا الموضوع".
ويبقى أهمّ ما قاله نصرالله في موضوع الحوار "هذا البلد خياره ومستقبله ومصيره وشرط وجوده وبقائه هو وحدته، الدّولة، مؤسسات الدّولة، الحوار بين اللبنانيين، اعتراف اللبنانيين ببعض، احترام اللبنانيين لبعض، ونجلس ونطمئن بعضنا، نحن من جهتنا لا نريد أن نُضعف أحدًا ولا نُريد أن نُنقص أحداً ولا نريد أن نأخذ من حصّة أحد ولا نريد أن نعتدي على أحد".
وإذ أكّد نصرالله "وجود ما استجد في هذا الإطار وهو ما أعلن عنه رئيس التيار الوطني الحر الأستاذ جبران باسيل، أيضًا أنا أؤكد أنه نعم نحن عدنا ونتحاور، نحن مع الحوار، حوار ثنائي، حوار ثلاثي، حوار جَماعي، لأنه ليس هناك حل آخر إلا هكذا. بنهاية المطاف نحن والتيار نجلس ونتناقش ونتفاهم ونأخذ وقتنا، ليس شرطًا أن يلزم أحد الآخر ليأخذ منه جواب أو ليصل لنتيجة بسرعة".
الحوار الذي تحدّث عنه السيد مع التيار وسبقه على ذكره باسيل نفسه، معتبراً "أن الحوار بين اللبنانيين مفيد" مستدركاً بأنّ الحوار مقبول أو مرغوب إذا كان يمرّر حلولاً، لكن مرفوض إذا كان لتمرير الوقت وانتظار ظروف ليتمكّن فريق من فرض مرشّحه".
وإن كان باسيل انضم إلى نصرالله بالإشارة إلى الدور الفرنسي المرتقب والمعوّل عليه عبر المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، قال، "أن الحوار قد يتخذ أشكالا كثيرة ويمكن أن يكون على شكل تشاور مكثّف أو وفق صيغ أخرى يمكن الاتفاق عليها"...
هذا الحديث عن شكل الحوار يدفع إلى السّؤال حول ما إذا كان أمر الحوار قد حُسم فعلاً، خصوصاً أنّ قائد القوات اللبنانية سمير جعجع أعلن رفضه هذا الحوار معتبراً أن الحلّ يكون بجلسات مفتوحة لانتخاب رئيس للجمهورية. قد يبدو للوهلة الأولى أن موقف جعجع يختلف عن موقف التيار الوطني الحر ولكنّ "الثنائي الماروني" إن صحّ التعبير، هذه المرة يلتقي على فكرة أن جلسة الانتخاب الأخيرة أظهرت بشكل قاطع أن مرشّح الثنائي الشيعي "اصطدم بحائط مسدود ولم يبلغ العتبة التي تبرّر بقاءه كمرشّح" وهذا الكلام لباسيل الذي أردفه بالقول، "إمّا التلاقي بالحوار للاتفاق على مرشّح ثالث أو جلسات متتالية..."
وقبل الخوض في الحوار حصل أو لم يحصل قال باسيل، "لا يراهن أحد على تغيير موقفنا في الحوار تحت عناوين المشاركة بالسلطة والحصص والوعود المستقبلية... الموقف لن يتغيّر خاصّة إذا كان الأمر يتعلّق بفرض رئيس جمهورية وتجاوز الواقع اللبناني بالشراكة... وكيف إذا تحوّل بشكل أو بآخر إلى استفزاز للوجدان المسيحي والوطني ولا أتخيّل أحداً يقبل بهذا الأمر ويتحمّل عواقبه أو نتائجه..."
ويبقى الأهم الموقف الذي أطلقه باسيل وهو موقف جعجع نفسه "لا يمكن أن نقبل بحذف مكون عبر التعاطي مع الرئاسة كموضوع بازار سياسي فيما هي موضوع ميثاقي كياني ولا نقبل التعاطي بها بأقلّ من هذا المستوى..."
حوار قطبيه "ثنائية مارونية" تقابل "ثنائية شيعية"، حيث يمثّل التيّار والحزب نقطة تلاقي وحوار، وتمثّل القوّات وحركة أمل نقطة جذب ولو باتّجاه معاكس
وفق ما أسلفناه هنا يمكن تبيّن حوار قطبيه "ثنائية مارونية" تقابل "ثنائية شيعية"، حيث يمثّل التيّار والحزب نقطة تلاقي وحوار، وتمثّل القوّات وحركة أمل نقطة جذب ولو باتّجاه معاكس. وبروز هاتين الثنائيتين يأتي في ظل إحجام كتلة اللقاء الديمقراطي عن الخوض في السباق بعد الغيمة التي اعترت علاقة زعيمها وليد جنبلاط مع صديقه رئيس المجلس النيابي وحركة أمل نبيه برّي. وبغياب تأثير تيّار المستقبل وانقسام نوّاب التغيير، مع تراجع اهتمام المجتمع الدّولي بالسّباق الرئاسي اللبناني وإن لأسباب مختلفة.
فهل ينطلق الحوار ممّا أكّد عليه نصرالله وباسيل وقبلهما برّي عن مندرجات اتفاق الطائف؟ بري قال قبل أيام "فلنطبّق اتفاق الطائف بكلّ بنوده وخصوصاً الإصلاحية منها ولاسيّما اللامركزية الإدارية وقانون الانتخابات خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس للشيوخ". أما باسيل فكان قد اعتبر أن ما يحصل اليوم على صعيد انتخابات الرئاسة "يحصل في ظل عدم تنفيذ الطائف الذي وُعدنا بتنفيذه منذ 33 عاماً... فلينفذ الطائف الذي ارتضيناه في العام 2005..." أمّا نصرالله فمن جهته قال "نحن لا نريد تغيير الطائف..." وأضاف "نحن مسألتنا لا مسألة تعديل نظام ولا تعديل دستور ولا تغيير بالطّائف. تحبّون أن يطبّق الطائف "يا الله"، بقيّة اللبنانيين يريدون أن يطوّروا الطائف "نحن حاضرين أن نسير معهم"، ماذا تريدون فنحن جاهزين؟"
الحوار الذي بدأ يتردّد صداه ولو تم وصفه بالمملّ، قد ينطلق من اتفاق الطائف لقطع الطريق على الحديث عن مثالثة بين المِلل، ولكن الخشية هي أن يعود الخلاف حول إلغاء الطائفية السياسية من النصوص قبل النفوس أو العكس، وأن تعود إلى الواجهة عناوين تُنسَب إلى مداولات الطائف التي لم يعرف أحد إليها سبيلاً. أو أن يصار إلى تكريس المزيد من الأعراف بالممارسة وإن لم يكن بالنصّ.
صحيح وصحّي القول بحوار من دون شروط مسبقة، ولكن على أن يكون الأمر بهدف الخروج بحلّ يرضي أغلبية المتحاورين مع صعوبة إرضاء الجميع، لا أن يكون حواراً لتقطيع الوقت بانتظار تطورات إقليمية أو دولية، ولا أن يكرّس خطوط تماس جديدة سلاحها الكراهية والإحساس بالغبن مع ما يعنيه هذا الأمر في بلد مثل لبنان الذي لم يخرج بعض من عصبيّاته، ولم تلتئم جراح مواطنيه التي خلّفتها الأحداث المتعاقبة. فهل من يتّعظ؟