المصارف تتوقّع موجة جديدة من المودعين الراغبين حديثاً بالاستفادة من التعميم 158، نظراً لتجديده وإلغاء "الهيركات" على السحوبات.
دقائقٌ معدودة وقَفتُها أمام فرع لأحد المصارف العريقة، تلخّص أربع سنوات من الانهيار الاقتصادي. موظّفة تتمترس خلف العازل الحديدي، وعشرات المودعين "يعتصَرون" في الممرّ الضّيّق من الجهة المقابلة. "الدّخول ممنوع من دون أخذ موعد"، تصرخ ملء حنجرتها، ونردّ سوياً بمطالبنا، وكأنّنا نتسوّل حقّنا. واحد يريد إجراء صيرفة وآخر سحب حوالة... وكثر يريدون الاستفادة من التعميم 158، من بعد ما عدّله المصرف المركزيّ.
حالة الانفصام التي تعيشها المصارف، لا تختلف بالشّكل والمضمون عن غيرها من القطاعات. في الشّكل ما زالت جدرانها الداخلية البيضاء مزينة بلوحات إعلانية من قبيل "تحكّم بحساباتك في أيّ وقت ممكن"، فيما جدرانها الخارجية سوداء مصفّحة بالحديد، ومودعيها يعجزون عن الوصول إلى حساباتهم.
حالة الانفصام التي تعيشها المصارف، لا تختلف بالشّكل والمضمون عن غيرها من القطاعات
التناقضات في المضمون
التناقضات من حيث الشّكل قد لا تنتهي، وعلى الرّغم من دلالاتها الكثيرة إلّا أنّها تبقى تفصيلاً أمام التناقضات في المضمون. فالموظفون، أو ما تبقّى منهم، منهمكون في عدّ أكوام الليرات لتحويلها إلى دولارات طازجة، من حسابات المودعين، فيما الفئة الأخيرة تسحب مدخّراتها بالليرة، و"بهيركات" 85 في المئة. فكيف تتواجد الدولارات لتدفع للمضاربين على صيرفة فيما لا تتوفر لأصحابها الحقيقيين؟
التناقض الفاقع الثاني يتمثّل بالتعميمين 151 و158. فهذان التعميمان يمثّلان "كابيتال كونترول" تمارسه المصارف استنسابياً بطلب من مصرف لبنان، من دون أن يكون هناك قانون يشرّع هذا الإجراء. فالتعميم 151 يفرض سقفاً للسّحوبات حدّه الأقصى 1600 دولار، وعلى أساس سعر 15 ألف ليرة للدّولار الواحد. أمّا التعميم 158 فحدّدَ بعد تعديله مؤخّراً سقف السّحب بـ 400 دولار، تدفع نقداً للعملاء المستوفين الشروط. وذلك من بعد ما كان المودع ملزم بسحب 400 دولار بالليرة على سعر صرف 8000 ليرة بداية، ثم 15 ألف ليرة لاحقاً، إلى جانب الاستفادة من 400 دولار نقداً.
صيرفة "ضيف ثقيل"
ما تفرضه المصارف من تشديدات على دخول المودعين يعود إلى تجدّد موجة الاقتحامات. فمن بعد هدوء نسبيّ خلال الفترة الماضية، اقتحم مودع "بنك مصر ولبنان" في العاصمة بيروت، واحتجز مدير الفرع، مطالباً بسحب وديعته البالغة 6500 دولار. أمّا لجهة التأخير في تنفيذ العمليات واضطرار المودعين للانتظار لساعات فيعود إلى "الواقع المستجد الذي فرضته صيرفة"، يقول رئيس نقابة موظّفي المصارف أسد خوري. "فالعمليّات على المنصة كثيفة وتتطلّب وقتاً كثيراً. أمّا في ما يتعلّق ببقية العمليات فمن الممكن تنفيذها عبر الصرّافات الآلية ATM، من دون الحاجة إلى دخول الفرع". وبرأي خوري فإنّ "طريقة التّعامل ليست موحّدة بين المصارف. وهي تختلف بين مصرف وآخر، وحتّى أحياناً داخل المصرف الواحد".
التعميم 158
ما يتحدّث عنه خوري لجهة إمكانية تنفيذ العمليات عن بعد، أو عبر الصرّافات الآلية، لا ينطبق على التعميم 158. وممّا يلاحظ، أنّ الكثير من المودعين، ولاسيّما منهم المغتربين، تحمّسوا للاستفادة من أحكام هذا التعميم، من بعد تمديد مصرف لبنان العمل به. وهم يريدون استغلال فترة وجودهم في لبنان لإجراء المعاملات المطلوبة. ولعلّ هذا ما لا تريده المصارف. فالتعميم الصادر في 8 حزيران 2021 كلّف المصارف التجارية قرابة 889.5 مليون دولار. والاستمرار به وتوسيعه ليطال فئات جديدة خشيت في البداية الانخراط به سيكلّف المصارف أكثر. وما يدلّ على الضغط الذي ستتحمله المصارف، هو سماح مصرف لبنان لها استعمال السيولة الخارجية المتوفّرة لديها ضمن نسبة الـ 3 في المئة المشار إليها في القرار الأساسي رقم 13262 تاريخ 27 آب 2020 (التعميم الأساسي رقم 154)، تأميناً للسيولة المطلوبة بموجب هذا القرار. على أن يتم إعادة تكوين هذه النسبة في مهلة أقصاها نهاية العام 2024.
تغيير قواعد الاشتباك
التغيير في قواعد الاشتباك من خلال حصر المدفوعات الشهرية بـ 400 دولار نقداً "ستحفّز المزيد من المودعين على الاستفادة من التعميم"، يقول خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي. "فعندما وقّع الذين يستفيدون من التعميم 158 على الاستفادة في تاريخ صدور التعميم 158، طُلب منهم تحويل مبالغ تستوفي شروط التعميم للحساب الخاص المتفرّع". وبسبب الدعاية السلبية التي رافقت التعميم، والحديث عن إجراءات مصرفية تلزم المودعين التنازل عن حساباهم في ذلك الوقت، وإلزامهم بسحب 400 دولار على سعر 8000 ليرة، خاف الكثر من المودعين، ولم يحوّلوا إلّا 10 الاف دولار، في البداية وأصبحوا يجددونها سنويا. "اليوم أتى تجديد التعميم ليقول إذا كان المودع لديه ما يكفي من الأموال في الحساب الخاص المتفرّع يتسفيد من 400 دولار نقداً، أمّا إن كان يجدد بعد 1 تموز 2023 سيحصل على 300 دولار، وذلك على الرّغم من أنّ شروط المودع تستوفي التعميم 158"، يضيف فحيلي. وعليه فإنّ إتاحة المجال أمام الموعدين لسحب 400 أو 300 دولار من دون أيّ اقتطاع "هيركات" فرصة لن تتكرّر في لبنان، خصوصاً في ظلّ تمييع الخطط الإصلاحية وتدنّي إمكانية التعويض على المودعين الصغار لغاية 50 ألف دولار بالحدّ الأقصى بقيمتها الحقيقية. وبالتالي فإنّ نفاد المودعين بحوالي 5000 دولار نقداً سنوياً، يعدّ فرصة مهمّة للكثير منهم.
إذاً المصارف تتوقًع موجة جديدة من المودعين الراغبين حديثاً بالاستفادة من التعميم 158 نظراً لتجديده وإلغاء "الهيركات" على السحوبات. وبحسب الأرقام فإنّ المبالغ المدفوعة بحسب التعميم 158 توزّعت على الشكل التالي 92،9 للمقيمين، 7،08 لغير المقيمين.
الخروج من فرع المصرف المذكور لم يكن أسهل من الدخول إليه. فأعداد المودعين المتجمهرين أمام بوّابة الشبك الحديدية كان قد ارتفع، وازدادت خشية الموظفة، نفسها، من تسلّل أحد "المشاغبين" في حال فُتح الباب. فما كان منها إلّا الالتفات باستهزاء قلّ نظيره، والقول: "ما فيك تضهر هلق، انتظر". ومن بعد تحرّري من سجن المصرف، دخلت شارع الحمرا، وإذ بأطفال ونساء يتسوّلون أمام واجهات المحلّات ويركضون خلف السيّاح، يرضون بالفتات، مثلهم مثل المودعين من أصحاب الحقوق.
بلد تحول إلى ساحة تسوّل كبيرة، وليس هناك من يسأل أو يحاسب.