الفنادق التي تتطلّع إليها فئة من السياّح أصبحت عبارة عن كوخ، أو غرفة في بيت من عمر التّاريخ...

ليس صدفة أن تضجّ مواقع التّواصل الاجتماعي في لبنان بالإعلانات عن مقاصد سياحية غير تقليدية. فالسيّاح من جهة يبحثون عن مهرب من حياة المدن، ويتطلّعون إلى أخذ استراحة من التكنولوجيا، والعيش في فقّاعة كل ما فيها اصطناعي. وطبيعة لبنان، توفّر من الجهة الثانية، إمكانات غير محدودة لتقديم تجربة جديدة في السياحة الخضراء، والعودة إلى الجذور والتقاليد على صعيد الترفيه والغذاء.

بحسب ما يظهر من ميول سياحية فإنّ الفنادق التي تتطلّع إليها فئة من السياّح أصبحت عبارة عن كوخ، أو غرفة في بيت من عمر التّاريخ. والتّرفيه تحوّل من صخب النوادي الليلية، واستئجار السيّارات الفارهة، والتسوّق في المتاجر العملاقة، إلى انزلاق على حبل فوق واد سحيق، والتجوّل في مزرعة، وقطف الثمار، و"وضع يد" في الصناعات التقليدية. أمّا الوجبات المفضلة فلم تعد تلك التي تقدّمها المطاعم العالمية، إنّما "ترويقة" بيض بقورما تقليدية، ومكدوس جبلي، ولبنة طازجة.

الوجبات المفضلة فلم تعد تلك التي تقدّمها المطاعم العالمية، إنّما "ترويقة" بيض بقورما تقليدية، ومكدوس جبلي، ولبنة طازجة

المحميّات وإعادة تأهيل النظم الإيكولوجية

هذا النمط الجديد من السياحة يتكامل مع "وجود المحميّات الطبيعية، وعملها على حماية البيئة وإعادة تأهيل النظم الإيكولوجية"، يقول مدير محميّة أرز الشوف الطبيعية نزار هاني. "فمن بعد ما كان الهمّ الأكبر في البدايات حماية غابة الأرز، والأحراج الموجودة في المحميّة ومحيطها، تطوّر الأمر مع الوقت إلى إعادة تأهيل النظام الإيكولوجي ليكون أكثر تكيّفاً مع التغيّرات المناخية، ومع كلّ أنواع التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية التي تفرضها الظّروف؛ ومنها ما نعيشه اليوم من تداعيات الأزمة الاقتصادية. وذلك لما تحمل هذه التغيّرات من تأثيرات مباشرة على الغابات، والهواء، وعلى نوعية الحياة في البيئة المحيطة".

الخطّة التي انتهجتها محميّة أرز الشوف، تعتبر جزءاً من خطّة عالمية مبنيّة على ثمانية أسس تنتهجها مختلف الدول، وتعمل عليها بالتّوازي للمحافظة على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة، وضمان حياة أفضل للأجيال الحالية. وكما تهدف الخطّة للمحافظة على الغطاء النّباتي والتنوّع الحيواني، تعمل على تطوير الاقتصادات ومساعدة السكّان على استغلال الموارد الطبيعية بشكل مسؤول، من أجل تأمين معيشتهم، وضمان بقائهم وتطوير مجتمعاتهم. "وقد أدّت هذه السياسة البيئيةّ بشكلها الواسع إلى خلق أنواع جديدة من الوظائف في محيط محميّة أرز الشوف، وتوفير فرص عمل لأبناء القرى والمدن المحيطة"، يقول هاني. "وهي تبدأ بأعمال تأهيل الأحراج وتنظيفها لحمايتها من الحرائق، وصناعة السّماد العضويّ - "الكومبوست"، والحطب الطبيعي المصنّع من بقايا تقليم الأشجار، وتمرّ بإعادة تأهيل المساحات و"التجليل" – بناء المدرجات الزراعية، وإنتاج الشتول والتصنيع الغذائي والحرفي التقليدي.. لتصل إلى السياحة الطبيعية التي تستفيد من كلّ سلسلة القيمة هذه".

المحميات والسياحة البيئية


انطلاقاً ممّا توفّره المحميّات، تنشط السياحة البيئية. سياحة لا تقتصر على التنزّه وممارسة رياضة المشي في الغابات، إنّما تتعدّاها إلى عيش تجربة سياحية تتكامل مع المبادئ الأربعة الاساسية للزراعة المستدامة، وهي إنتاج زراعي، إنتاج حيواني، تصنيع غذائي، والسياحة الزراعية. "فتُفتح المزارع أمام الزوّار للتعرّف على النشاطات الزّراعية، والقيام بقطاف المحاصيل والحصاد، وتذوّق المأكولات الصحّيّة الموجودة في المزارع"، يضيف هاني. "وهذا النوع من السياحة تطوّر بشكل لافت في السنوات الأخيرة. وهو يحظى بقبول كبير. ممّا يساهم بخلق مئات فرص العمل بشكل مباشر ويحرّك العديد من القطاعات ذات الصلة". هذا بالإضافة إلى الخدمات الأخرى المرتبطة مباشرة بالسياحة البيئية من خلال بيوت الضيافة والفنادق الصغيرة... وغيرها من المفاهيم الرائجة حديثاً.

الخيار الذي انتهجته محميّة أرز الشوف بدأ ينعكس إيجاباً على كل القطاعات. وعاد قضاء الشّوف ليشكّل وجهة سياحية مستدامة، مبنيّة على أساس حماية البيئة. وبرأي هاني فإنّ "تأمين التوازن في سلسلة القيم " value chain"، ربط القطاعات بعضها ببعض. فانطلاقاً من حماية البيئة، أوجدنا فرص عمل، وأعدنا تأهيل النظام الإيكولوجي، وصنعنا المواد الناتجة عن إعادة التأهيل وحوّلناها إلى مواد تفيد المواطن، وخفّفنا الضغط على الغابات، وخلقنا فرص عمل محلّية ونشّطنا السياحة ووسّعنا الخيارات والبرامج السياحيّة المبنية على أسس حماية البيئة".


إعادة وعل الجبل

واحدة من النّشاطات المرتبطة بإعادة تأهيل النظام الإيكولوجي كان إعادة إدخال وعل الجبل، (الماعز الجبلي – إيبيكس) إلى الجبال اللبنانية، عبر برنامج علمي صرف. فمن بعد ما خسرت جبال لبنان هذا الحيوان بفعل الصّيد الجائر والحرب والتغيّرات الطبيعية عادت محميّة أرز الشوف لإدخال هذا الحيوان تدريجياً. وهو يستقطب عدداً كبيراً من السياح لمشاهدة القطيع في المرتفعات. هذا بالإضافة طبعاً إلى ما توفّره المحميّة من تجربة مراقبة الطيور ومشاهدة الحيوانات والنباتات البرّيّة. وبحسب هاني فإن "إدخال وعل الجبل الذي كان موجوداً قبل مئة عام، مهمّ جدّا للطبيعة من أجل تحقيق التوازن الطبيعي وإكمال السلسة الغذائية".

ربط المحميات ببعضها

التجربة التي تقودها محمية أرز الشوف "لن تبقى محصورة في الشّوف بل تعمل على نقلها إلى محميات أخرى في لبنان، ومنها محميّة جبل حرمون" يضيف هاني. "حيث نعمل تحت مظلّة وزارة البيئة لربط محميّة أرز الشوف بمحمية جبل حرمون، عبر الممرّ الإيكولوجي الذي يمرّ في سهل البقاع بمحاذاة بحيرة القرعون والحوض المائي لنهر الليطاني. وهذه المبادرات تحافظ على الغابات وتربط النّاس أكثر بالطبيعة وبالأرض وتساهم بخلق فرص عمل أكثر استدامة وأكثر صداقة للبيئة".

مبادرة عاليه الاصيلة

من الجانب الاخر تنشط في الجبل، وتحديداً في قضاء عاليه، ظاهرة بيوت الضيافة في الطبيعة و"الشاليهات" المفتوحة على مسابح، والمنتزهات العائلية. وتستقطب قرية كفرمتّى وحدها 168 بيت ضيافة مع مسبح خاص. وتحظى هذه المشاريع بدعم وتشجيع من مبادرة منظمة - Authentic Aley" التي أطلقت قبل 3 سنوات بالتّعاون بين بلديّات القضاء والقطاع الخاص والجمعيات مع الفعاليات والجمعيات. ويقول رئيس المنظّمة زاهر رضوان إنّ "المنطقة تستقطب كل أسبوع بين 4 آلاف و5 آلاف زائر. الأمر الذي ينعكس تنشيطاً للدّورة الاقتصادية، واستهلاكا للمنتجات البلديّة الطبيعة التي ينتجها الحرفيّون، وحركة بيع في الأسواق". وبرأيه فإنّ "المشاريع المستحدثة بالمنطقة توفّر تجربة مزدوجة بين السياحة البيئية والسياحة التقليدية بمعناها الترفيهي". وبحسب رضوان فإنّ "التطوّر السّريع للواقع السياحي بهذا الاتجاه سيترافق في الفترات المقبلة مع مزيد من التنظيم، عبر إنشاء هيئة ناظمة للسياحة في عالية، للمحافظة على بيئة وطبيعة المنطقة، والحصول على تصنيف. ما يشجّع على المزيد من استقطاب السيّاح والمستثمرين على حدّ سواء.

السياحة البيئية والعودة إلى الأصول مفهوم "concept" جديد آخذ في الازدهار والتوسّع في لبنان، وكلّ المطلوب رفده بالمزيد من الجهات التنظيمية المسؤولة لكي لا تتحوّل هذه الفورة من نعمة إلى نقمة.