"إذا عُرف السبب بطُل العجب"، والعجب ليس في حوادث السير الحاصلة وأعدادها المتزايدة في الآونة الأخيرة، إنّما في الحوادث التي لم تحصل بعد! نعم، ففي ظلّ الترهّل الذي يضرب عصب مؤسّسات الدّولة اللبنانية منذ ما قبل الأزمة الإقتصادية والأزمات المتلاحقة بسببها، باتت العناية بالطرقات وصيانتها بشكل دوري شيئاً ثانويّاً، كما أنّ الغياب التّام وشبه الكلّي لأيّ "عقاب أو رادع" عند مخالفة قوانين السّير من الطبيعي أن يؤدّي إلى عدم التقيّد بقوانين السلامة المرورية وحتّى عدم الإكتراث لها.
وبينما كانت تتراوح قيمة الغرامات الماليّة لمخالفة قانون السير من الـ70 دولار تقريباً في الفئة الأولى وصولاً إلى ما يقارب الـ2000 دولار أميركي مع الحبس من شهر إلى سنتين في الفئة الخامسة من المادة 373 من قانون السير قبل 17 تشرين 2019، باتت قيمتها اليوم تتراوح بين الـ1 دولار والـ20 دولار أميركي في أسوأ الأحوال بفعل تراجع قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، وما تقدّم يشكّل سبباً رئيساً يضاف إلى سلسلة أسباب تقليدية دائماً ما تتكرّر عند الحديث عن حوادث السير في أيّ بقعة من العالم. وبينما يُجمع الخبراء على أنَّ السرعة في غالبية الأحيان تكون السّبب الأول، يشيرون إلى أنّ حال الطرقات من تواجد إشارات وعواكس ضوئية وإنارة وصولاً إلى حملات التّوعية والإرشادات، كلّها عوامل لا يمكن الاستخفاف بخطورة غيابها.
ووفق منظّمة الصحة العالمية فإن حوادث السير تُزهق أرواح نحو 1.3 مليون شخص سنوياً، فيما يتعرض بين 20 و50 مليون شخص آخر لإصابات غير مميتة، علماً أنّ العديد منهم يُصاب بعجز ناجم من إصاباتهم. كما تتسبّب اصابات حوادث المرور في خسائر اقتصادية فادحة للأفراد وأسرهم وللبلدان بأسرها، في حين تتمثل تلك الخسائر بتكلفة العلاج أولاً وفقدان إنتاجية الأشخاص الذين يموتون أو يصابون بالعجز، فضلاً عن تغيّب أفراد أسرهم عن العمل أو المدرسة لرعاية المصابين، فكم من حادث سير قلب حياة أسر بأكملها رأساً على عقب وحوّلها من النعيم إلى الجحيم.
وتقدّر كلفة الحوادث المرورية في معظم البلدان بـ3 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي وفق منظمة الصحة العالمية، بينما تُفيد الدولية للمعلومات بأنّ الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي 2023 مقارنة بالفترة نفسها من العام 2022، سجّلت تراجعاً في عدد حوادث السير بنسبة 6.5 في المئة وتراجع في عدد الجرحى بنسبة 5.5 في المئة، ولكنّها شهدت إرتفاعاً في عدد الضحايا بنسبة 17 في المئة وهذه ليست بالنّسبة القليلة، فمنذ مطلع شهر تمّوز الحالي وحتّى اليوم سجّلت إحصاءات غرفة التحكّم المروري في قوى الأمن الداخلي، عدداً كبيراً من حوادث السّير على مختلف الطرقات اللبنانية والتي نتج منها 11 قتيلاً ونحو 112 جريحاً، فيما لا توجد أرقام واضحة تحصي تكلفة الخسائر المادّية المترتّبة من ذلك.
من جهته، يكشف الخبير في السلامة المرورية كامل ابراهيم، لـ"الصفا نيوز" أنّه في ظلّ الانهيار الاقتصادي الحاصل وإفلاس الإدارات العامّة، وتوقّف عمل "الرادرات على الطرقات، وانقطاع التيار الكهربائي" حتّى عن إشارات السّير في العاصمة بيروت، سيُعقّد موضوع الالتزام بأدنى معايير السّلامة المرورية، لافتاً إلى "أنّ المنظومة المتكاملة والمرتبطة بالسّلامة المرورية باتت هشّة بدرجة كبيرة، وأحياناً تكون غير متواجدة أصلاً".
وأضاف إبراهيم: "الله الحامي، ولكنّ حلّ مشكلة الحوادث لا تكون إلّا عبر استراتيجيّة وطنيّة متكاملة. هناك عناصر كانت موجودة ويعمل عليها لتنفيذ قانون السير، ولكن لم تكن فعّالة بالقدر الكافي، لأنّه وبعد التوقّف عن تطبيق القانون يعود المواطنون إلى حالهم وغرائزهم بحب المخالفة، فما يجب فعله اليوم، هو بناء جيل مثقّف ووضع برنامج توعوي ضمن المنهج الدراسي، على أن تكون شروط الحصول على رخصة سوق قاسية حفاظاً على السلامة العامة."
كذلك، ذكر أنّه "لطالما شابَ عمليات استصدار رخص القيادة الكثير من الغموض والغشّ"، محذّراً من وجوب توقّفها حالياً في ظل غياب تطبيق قانون السير، فيما أوضح أنّ حوادث السير موجودة دائماً ولكنّها تزداد صيفاً نظراً لزيادة تنقّل اللبنانيين، وهذه المشكلة ترتبط بالحلّ الذي من المفترض معرفة أسبابه".
وشدّد ابراهيم على أنّ الاهتمام اليوم يقتصر على تأمين الطّحين لرغيف الخبز وساعات معدودة من التغذية الكهربائية فضلاً عن أمور حياتية يومية تشكّل هاجساً للمعنيين والمواطنين على حدّ سواء.