دفعت الأزمة الاقتصادية بالمحلّلين والمواطنين إلى ربط أيّ تطوّر سواء كان إيجابي أو سلبي بسعر الصرف. فلم يعد الهمّ استعادة لبنان موقعه السياحي، إنّما تداعيات ما يحمله الزوّار من عملة صعبة على انخفاض الدولار. وتحوّل التركيز من جذب السيّاح من مختلف الوجهات، إلى البحث عن جنسيتهم، وحساب متوسط إقامتهم وحجم إنفاقهم. فاختلط "نابل" السياحة بـ "حابل" الوضع النقدي، وحصل اللبنانيون على ما يتلهّون به من جديد.
تاريخياً شكّلت السياحة في لبنان مورداً اقتصادياً مهمّاً، ولعبت إلى جانب تحويلات المغتربين، والاستثمارات الأجنبية المباشرة دوراً أساسياً في رفد الاقتصاد بالنّقد الصعب. إلّا أنّ هذا المورد الذي أخذ بالتراجع تدريجياً منذ العام 2011، لم يتلهّف عليه اللبنانيون إلّا بعد اندلاع الأزمة. فافتُقد في ليالي الانهيار المالي وأزمة كورونا وانفجار المرفأ الظلماء، "بدر" السيّاح. وأصبح لقدومهم في مواسم الصيف والشتاء وعطلات الأعياد والمناسبات نكهة خاصّة، مطعّمة برائحة الاوراق الخضراء التي ينتظر منها "شقّ" صدر الاقتصاد وتنفّسه الصعداء.
3.5 مليار دولار عائدات السياحة لصيف 2023
من المنتظر أن يستقبل لبنان هذا العام ما بين 1.5 و2 مليون زائر، 32 في المئة منهم من فئة السيّاح وليس المغتربين"، يؤكد نقيب مكاتب وكالات السياحة والسفر جان عبود. 50 في المئة من السياح هم من الجنسية العراقية، والبقية موزّعة بين الأردنية والمصرية... وغيرها من الجنسيات العربية والأجنبية. ومن المنتظر بحسب عبّود أن "يصل في الفترة الممتدة بين الاول من تموز وآخر أيلول بين المئة، و105 طائرات يومياً، بسعة كبيرة ومتوسّطة. وبمعدّل وسطي يبلغ 200 راكب على متن كلّ طائرة، أي ما يقارب 21 ألف راكب يومياً، أو 600 ألف راكب شهرياً". وقياساً على هذا المعدّل قد يصل عدد الزوار إلى حدود 1.8 مليون زائر خلال موسم الصيف. ومن المتوقّع أن يصل حجم الانفاق إلى حدود 3.5 مليار دولار وذلك بالاستناد إلى معدّل إنفاق لا يتعدى 1000 دولار لكلّ سائح"، بحسب عبود. وذلك خلافاً للفترات التي سبقت العام 2011 حيث كان مركز الثقل هو السائح الخليجي، بمعدّل إنفاق يومي يتراوح بين 3 و 5 آلاف دولار. وقد ساهمت السياحة في تلك الفترة بحوالي 9 إلى 11 مليار دولار من الدخل القومي في البلاد.
تداعيات الانفاق السياحي على سعر الصرف
بالاستناد إلى جنسية السيّاح ومستوى مداخيلهم، وطبيعة النشاطات السياحية التي يقومون بها، ومستويات الخدمة التي يطلبونها، يتوقّع ألّا يتجاوز الدخل العام 1.5 مليار دولار. إلّا أنّه بغضّ النّظر عن الرّقم، وإن كان أكبر أو أقلّ، يبقى أنّ مساهمته بتخفيض سعر صرف الدولار مقابل الليرة هامشية. "فالأساس يبقى قياس ما يدخل من دولارات بواسطة السيّاح بالمقارنة مع ما يخرج على استيراد السّلع والخدمات لتلبية هذه المتطلّبات"، يقول الباحث في الاقتصاد السياسي والاجتماعي د. طالب سعد. وبحسب ما يظهر فإنّ وتيرة الاستيراد من الخارج عادت لترتفع إلى معدّلات ما قبل الأزمة بسبب تحسّن القدرة الشرائية عند بعض الفئات من جهة، واعتياد اللبنانيين على الأزمة من الجهة الثانية، ما سيؤدّي إلى استمرار خروج دولارات من النظام أكثر من تلك التي تدخل. الأمر الذي لن ينعكس إيجاباً على سعر الصّرف. أمّا من الجهة المقابلة فيلفت سعد إلى أنّ "وجود كتلة من الدولار في الأسواق تشجّع مصرف لبنان على طباعة المزيد من الليرات لامتصاصها، وتلبية تعاميم دولرة السحوبات مثل التعميمين 161 و158. الأمر الذي سيدفع إلى ازدياد الطّلب على الدولار ويؤدّي إلى ارتفاع سعره. وهذا ما شهدناه في العام الماضي، حيث بقي سعر الصّرف يرتفع في عزّ موسم الاصطياف. وقد تجاوز الارتفاع بين أوّل الموسم وآخره 12 ألف ليرة، مرتفعاً من حدود 27 ألف ليرة في حزيران 2022 إلى حدود 40 الفاً في أيلول من العام نفسه. وهذا ما سيحصل اليوم. فسلاح المركزي الوحيد راهناً هو الليرة، وأي استشعار بدولار يدور خارج فلكه، يحفّز المركزي على طباعة المزيد من الليرات لامتصاصه"، على حد وصف سعد. "وبالتالي من الممكن أن نشهد عودة إلى ارتفاع سعر الصرف وليس انخفاضه".
الايجابيات المنتظرة في صيف 2023
بعيداً عن تأثير إنفاق السيّاح على سعر الصرف بشكل مباشر، فإنّ ازدهار الحركة السياحية شجّع على عودة الاستثمارات في القطاع وخلق فرص عمل. ومن الممكن الاستدلال على هذا الواقع من خلال "افتتاح 250 مؤسسة سياحية جديدة بكلفة تراوحت بين 200 ألف و3 مليون دولار"، بحسب ما افاد وزير السياحة وليد نصار. "وهذا يعدّ استثماراً كبيراً". وما شجّع على ذلك عودة الأسعار إلى مستويات ما كانت عليه قبل الانهيار وازدياد وتيرة الدفع بالدولار.
الايجابيات الناقصة
العوامل السياحية الإيجابية على أهميتها تبقى ناقصة إن لم تترافق مع أمرين أساسيين:
- عودة الاستثمارات في البنى التحتية الأساسية، من مرافئ وطرقات وكهرباء وصرف صحّي ومياه وأمن وأمان، وتخطيط انمائي استراتيجي.
- وجود قطاع مصرفي سليم قادر على استيعاب التدفّقات النقدية وإعادة توزيعها على شكل قروض للقطاع الخاص، بما يضمن وصول جميع مكوّنات المجتمع إلى مصادر الثروة بشكل عادل.
من دون وجود دولة قادرة، وقطاع خاص سليم ومتوازن سيتحوّل لبنان مع الأيام والسنوات إلى جزر، بعضها مزدهر، يتوفر فيها كل مستلزمات السياحة، وبعضها الآخر معزول ومهمل. الأمر الذي يعمّق التفاوت المناطقي ويزيد الانقسام بين شرائح المجتمع ويعزّز الاختلافات الطبقية العامودية. وهو ما لا يصبّ في مصلحة الدّولة والاقتصاد ككلّ.