وصلت العلاقة بين جودة التعليم والاقتصاد إلى مستويات خطيرة في لبنان. ربّ متسائل: "ما خوف" الاقتصاد "الغريق" من بلل "انهيار" المستوى التعليمي! فالاقتصاد منكمش وعاجز عن توليد فرص عمل، تتلاءم مع الاختصاصات التقنية الحديثة. وأحسن ما يقدمه عمالة موسمية وغير نظامية في القطاعات الخدماتية، وأجيال تعتمد على المساعدات الاجتماعية من القروض الدولية وتحويلات المغتربين. ومع هذه "القناعة" يخفّف المسؤولين عن ضمائرهم ركوب موجة الانهيار وجرف "جامعة الشرق" في فيضان القضاء على ميزات البلد التفاضلية.

يوماً بعد آخر تتكشّف الأرقام عن الدّرك الذي وصله قطاع التعليم. آخرها أنّ حوالي 80 في المئة من طلّاب الشهادة الثانوية، يعتقدون أنّ المهارات التي اكتسبوها خلال المرحلة ما قبل الجامعية، لا تمكّنهم من إكمال مسيرتهم التعليمية. وذلك بحسب "استبيان مركز الدراسات اللبنانية عن جهوزية الطلاب لتقديم الامتحانات الرسمية". وقد أعرب 15 في المئة فقط من طلاب الثانوية الرسمية عن ثقتهم بإمكانية إكمال تحصيلهم الجامعي استناداً إلى التعليم الذي تلقّوه في صفوف المرحلة الثانوية الثلاثة. فيما لم يرتفع الرقم إلى أكثر من 38 في المئة من الثانويات الخاصّة. وهو ما يدلّ على أنّ لبنان سيخرّج بعد 3 سنوات جيلاً جامعياً ضعيفاً غير قادر على المنافسة في سوق العمل الدولية. وهنا مكمن الخطورة.

المشكلة بنيوية

خلافاً لما يعتقده كثر من أنّ مشكلة التعليم في لبنان ظرفية، وتعود إلى إضراب المدرسة الرسمية، وإحباط أساتذة الخاصّة، تُبيّن المعطيات عكس ذلك. فمشكلة التعليم بنيوية وهي تعود إلى سنوات طويلة. فمنذ ما قبل الأزمة المالية، كان موقع لبنان بحسب المقاس العالمي لفعالية سنوات التعليم (مؤشري PISA & TIMSS) هو 3.6 سنة، من أصل 12 سنة تعليم فعلية. فيما المتوسط العالمي يبلغ 10.8 سنة. والسبب أنّ لبنان قلّص أيام التدريس الفعلية في العام 2016 من 170 يوم تدريس فعلي إلى 120 يوماً، ممّا استدعى في المقابل تقليصاً للمناهج. أمّا بعد العام 2019 ونتيجة كورونا والانهيار، تراجع عدد أيام التدريس في المدرسة الرسمية إلى 60 يوم تدريس فعلي. مشكلاً بذلك فجوة واسعة بيــن الرسمي والخاص. ومما زاد الطين بلّة أنّ المناهج قديمة وغير محدّثة وتعود للعام 1997. مما يعني أنّ المهارات والمكتسبات المعرفية في جزء كبير منها لا تواكب العصر. بحسب دراسة "كلفة التعليم في لبنان إنفاق الخزينة وإنفاق المجتمع" لمركز الدراسات اللبنانية. "الأمر الذي كان ظاهراً بوضوح في نتائج العلوم فـي الاختبارات الدولية".

الانعكاسات الاقتصادية والمجتمعية

ثغرة "فقدان التعليم" التي يعاني منها لبنان، والتي "لا تقلّ عن خمس سنوات بأحسن الأحوال"، بحسب الباحث التربوي نعمه نعمة، ستترك انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي في المستقبلين القريب والبعيد. "فالحاصل التعليمي الفعلي خلال السنوات الخمس الماضية لم يتجاوز السنتين. والمستوى التعليمي للتلامذة في المراحل ما قبل الجامعية في المدارس الرسمية بشكل خاص، وبجزء كبير في المدارس الخاصة، لا يتناسب مع الصفوف التي سيرفّعون إليها. وبالتالي ينشأ جيل لا يملك الكفاءة والمهارات الأساسية في اللغات والعلوم، وغير مهيأ لإكمال مراحل التعليم بفعالية. "الأمر الذي سينعكس أولا على كفاءة المعلمين في المستقبل"، بحسب نعمه. "وبالتالي على كفاءة ومستوى الأجيال القادمة. ونكون بذلك قد دخلنا حلقة من التراجع الدراماتيكي من الصعب كسرها".

التعليم وتحويلات المغتربين

هذا على المدى البعيد، أمّا على المدى القريب "فسنشهد انكفاء أصحاب الاختصاص عن دخول قطاع التعليم، وتراجع أعداد الأساتذة الذين يملكون المهارات الأساسية والمطلوبة لتنشئة الأجيال"، برأي نعمه. "خصوصاً في ظلّ تدني الرواتب وغياب الحوافز. الأمر الذي سينتج عنه ضعف في الاختصاصات العلمية بشكل خاص، من الرياضيات وعلوم حياة والفيزياء والكيمياء.. وهو ما سينعكس تراجعاً مماثلاً في الاختصاصات الجامعية العلمية. وبالتالي نقصاً في الاختصاصات التي تسمح بتوليد أجور كبيرة وإعطاء قيمة مضافة للمجتمعات التي تتواجد فيها".

بإحصائية بالغة الأهمية يعتبر البنك الدولي أنّ "كل سنة تعليم إضافية تزيد على الدخل الفردي 10 آلاف دولار على مدى الحياة". وعليه كلما انخفضت جودة التعليم كلما تراجعت سنوات الدراسة وتراجع معها الدخل المجتمعي بشكل غير مباشر. أمّا بالشكل المباشر فإنّ لبنان معرض خلال السنوات القليلة المقبلة إلى خطر تراجع تحويلات المغتربين نتيجة عجز خرّيجيه عن المنافسة في الأسواق العالمية، وصعوبة حصولهم على المراكز المتقدّمة ذات المدخول الكبير نتيجة تراجع كفاءاتهم. وهذا ما بدأ يظهر جلياً في رفض الكثير من مؤسسات الاعمال، الشهادة التعليمية اللبنانية الصادرة عن أكثرية المؤسسات التربوية، أو عدم تقييمها بشكل إيجابي. وهو ما سينعكس حكماً على مستوى الدخل الفردي، وبالتالي على قدرة المغتربين على تحويل نفس قيمة المبالغ التي اعتاد عليها لبنان خلال السنوات الماضية والتي وصلت في المتوسط إلى 7 مليار دولار.

تعطل الدورة الاقتصادية

على المدى البعيد ستعاني الدورة الاقتصادية من الخلل الذي أصاب النظام التربوي. فالاقتصاد الذي بني على تخريج الكفاءات وتصديرها، ومن ثم الاعتماد عليها بتحويل الأموال، تعطل. وأحسن ما سيخرجه بشكل عام هو كفاءات من المستويات المتوسطة والمتدنية. وهذا لن ينعكس فقط على تراجع الكفاءات المصدرة، إنما أيضاً تلك العاملة داخلياً والتي تساهم برفع مستوى القطاعات الخدماتية ولا سيما بالطب والصناعات الحديثة وميادين العلم نفسها. فلبنان فسيفقد دوره كمستشفى الشرق وجامعته. وسيخسر التدفقات النقدية الهائلة نتيجة تقديم الخدمات النوعية من جهة. وسيخسر من الجهة المقابلة توظيف أبنائه إمكاناتهم المادية للحصول على هذه الخدمات من الخارج. وبذلك تكون الخسارة مثلّثة.

باختصار فإنّ التعليم الذي يمثّل أساس الحلقة التي توصل بقية القطاعات ببعضها وتساهم بتطويرها قد "تشظى" نتيجة الأزمة. وإن لم يصار إلى تدارك الوضع سريعاً من خلال الإصلاحات الجوهرية فإنّ مستقبل لبنان سيكون مظلماً أكثر من واقعه الحالي.