بعد أكثر من عام على دعوى "جمعية المصارف"، أصدر مجلس شورى الدولة قراراً بقبول الدعوى.

أعاد مجلس شورى الدّولة خلط أوراق "توزيع الخسائر"، وجلس اللاعبون الأربعة بانتظار "فتّية" جديدة. اللعبة ليست "الأربعمئة" الشهيرة، ولا يوجد تشارك فيها. إنّما لاعبون منفردون يتكوّنون من الدولة، مصرف لبنان، المصارف التجارية والمودعين. يتحدّد الرابح فيها بمقدار ما يتجنّب "أكل" الخسائر في النظام المصرفي المحدّدة أقلّه بـ 60 مليار دولار.

عقب توقيع الاتفاق المبدئي على صعيد الموظّفين مع صندوق النقد الدولي، أقرّ مجلس الوزراء في آخر جلسة قبل التحوّل إلى تصريف الأعمال بتاريخ 20 أيار 2022، "استراتيجية النهوض بالقطاع المالي"، و"المذكّرة بشأن السياسات الاقتصادية والمالية". وقد تضمّنت الاستراتيجية بنداً ينصّ على التالي: "إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف اللبنانية، وذلك لتخفيض العجز في رأسمال مصرف لبنان، وإغلاق صافي مركز النقد الأجنبي المفتوح للمصرف".

هذا القرار يعني باختصار أنّ الخطّة ستشطب "موجودات المصارف (توظيفاتها) في مصرف لبنان والمقدّرة بحدود 60 مليار دولار، ما يستلزم من الجهة الثانية محاسبياً، شطب المصارف نفس القيم من مطلوبات المودعين (الودائع). وهو الأمر الذي يشكّل اقتطاعاً هائلاً (haircut) من حسابات المودعين، ويصفّر رساميل المصارف"، من وجهة نظر جمعية المصارف.

جمعية المصارف تقدّمت على الفور بطلب وقف تنفيذ وإبطال هذا البند تحديداً من الخطة. وبعد أكثر من عام على دعوى "جمعية المصارف"، أصدر مجلس شورى الدولة قراراً بقبول الدعوى. ما يعني عملياً إيقاف العمل بهذه المادة إلى حين صدور القرار النهائي.

ماذا يعني قرار مجلس شورى الدولة؟


المحامي البروفيسور نصري أنطوان دياب

قرار قبول الطعن بالشّكل يحمل معانٍ كثيرة، فخلافاً لكلّ ما يقال عن أنّ مجلس الشورى ملزم بقبول أيّ مراجعة أمامه مستوفية للشروط الشكلية والمهل القانونية، يرى المحامي البروفيسور نصري أنطوان دياب أنّ "المجلس غير ملزم بقبول المراجعة إن لم يكن المتقدّم بها يملك الصّفة والمصلحة. وهو ما يشكّل اعترافاً بصفة ومصلحة جمعية المصارف أولاً. أمّا ثانياً والأهمّ، فهو أنّ قرار مجلس الشورى اعتبر أنّ البند المطعون به في خطة التعافي الحكومية يلحق ضرراً بالمصالح الشخصية للأفراد. وذلك على النقيض تماماً مما ساقته الحكومة في استراتيجيتها، بانّ الخطة ليست قراراً إدارياً نافذاً وضاراً، إنّما فقط توجيهاً عاماً. وقد جاء قرار مجلس الشورى في ٢٢ صفحة مفصّلة جدّاً ومعللة بشكل وافٍ، مما يعطيه أهمية كبيرة، خاصّة لجهة حماية الملكية والودائع". ذلك مع العلم أنّ "القرار يعتبر إعدادي وليس نهائي"، بحسب د. دياب. "ولا يجب تحميله أكثر بكثير مما يحمله".

الأمور رهن بخواتيمها

هذا من الناحية القانونية، أمّا اقتصادياً فإنّ الأمور مرهونة بخواتيمها. إذ إنّ عدم إبطال البند المطعون به يبقي الأمور على حالها، بانتظار إقرار البرلمان الخطّة وبدء العمل بها. فيما إبطالها يتطلّب الانتقال إلى حلول بديلة لطريقة توزيع الخسائر، وهي كثيرة بحسب البروفيسور دياب الذي تقدّم بأكثر من مطالعة ودراسة بعدم جواز تنفيذ اقتطاعات Haircut)) من حسابات المودعين، لا بشكل مباشر، ولا بالمواربة من خلال شطب ديون المصارف التي يحملها المصرف المركزي، والتي تقود إلى النتيجة نفسها". فشطب الخسائر (الودائع)، يمثّل الحل الأسهل الذي جرى اعتماده في جميع الخطط بدءاً من "لازارد"، مروراً بمطالب "ناظر مؤتمر سيدر" بيار دوكان، وصولاً إلى صندوق النقد. و"الكلّ يعترف بأنّها عملية محاسبية"، يقول د. دياب. "مع العلم أنّ إعادة التعافي للاقتصاد اللبناني هي عملية اقتصادية وليس محاسبية تقنية".

إطلاق النار على قرار ميت؟

المفارقة أنّ التسليم جدلاً بإبطال مجلس شورى الدولة بند شطب خسائر المركزي، لا يعني بالضرورة عودة حقوق المودعين. فهذا البند لم يكن ليقرّ أصلاً بأيّ شكل من الأشكال بوجود قرار من مجلس الشورى أو عدمه. وهناك شبه استحالة بصدور قرار من البرلمان يقضي بشطب الودائع. "وكلّ ما يجري راهناً وكأنّك تطلق النار على قرار ميت في الأساس"، بحسب توصيف أحد المعنيين بالقرار. "وذلك سواء استخدم المدافعون القانون أو الإعلام أو غيرها من الوسائل".

البدائل غير متفق عليها

من حيث المنطق يتطلّب حفظ الودائع أولاً وجود بديل منطقي وعملي ومستدام يضمن استعادة المودعين لحقوقهم. وعلى الرغم من تعدّد المقترحات البديلة المقدّمة من "اتحاد المصارف العربية"، و"الهيئات الاقتصادية"، وجمع من الخبراء والباحثين والأكاديميين... إلاّ أنّ أيّاً منها لا يلقى توافق عام عليه. وكل ما يجري منذ 4 سنوات هو السير بـ "خطّة ظل" تذوّب الودائع بالتعاميم 151 و158 وتخفيض سعر الصرف الرسمي عشرة أضعاف إلى 15 ألف ليرة. والنتيجة كانت ذوبان ما يقدر بحدود 70 مليار دولار من الودائع بالليرة والدولار، باقتطاع تراوح بين 60 و90 في المئة. ولم يبق هناك في النّظام المصرفي إلّا ما مجموعه 97 ملياراً... والحبل على الجرّار. والأخطر من تذويب الودائع هو البدء باتخاذ إجراءات تطهيرية وإعادة هيكلة للقطاع المصرفي من دون خطّة، واضحة وصريحة وعادلة. حيث أقرّ التعميم 165 بوجود قطاع مصرفي جديد في قلب كل بنك. وهذا القطاع لديه زبوناً ممتازاً يمتلك الدولار النقدي وآخر غير مرغوب به يملك اللولار المحجوز.

"يتطلب الخروج من الأزمة 5 سنوات بعد تطبيق آخر إصلاح مطلوب"، هكذا قالت خطة "لازارد"، في العام 2020. وبعد 4 سنوات من الانهيار لم يتحقق أيّ إصلاح جدّي. وباستثناء تعديل قانون السرّية المصرفية، المرفوض من الجهات الدولية، وإقرار موازنة 2022 المبتورة، فإنّ كلّ الاجراءات الإصلاحية الصعبة والمعقّدة، معلّقة ومتنازع عليها بشكل شرس بين أقطاب الأزمة. الأمر الذي يقود إلى استنتاج أنّ الحلّ سيبقى متمثّلا بتنفيذ كلّ طرف مصالحه ولو على حساب الصالح العام، واستعادة البلد عافيته.

على "الطاولة الخضراء" يتخاصم اللاعبون، ليس لأنّ قوانين اللعبة تفرض ذلك، إنّما لانعدام الثقة في ما بينهم. ففي الوقت الذي يجب أن تتوافق فيه مصلحة المصارف بعدم شطب الودائع مع مصالح المودعين، نرى العكس. حيث تعتقد الفئة الأخيرة أنّ القرار يحمي المصارف من الإفلاس ولا يعيد حقوقها. أمّا تحميل الخسائر للدولة وإلزامها التعويض عن المصارف، فلا يلقى ثقة المودعين والجهات الدولية أيضاً، باعتبار أنّ هذه الطريقة ستعفي المصارف من ارتكاباتها وتحمّل كل الشّعب اللبناني مسؤولية التعويض... "وحلّها إن كان فيك تحلّها!"