توافق الفرقاء ذات ليلة وتقاطعوا على مرشّح ليس من صفوفهم، يتمتّع بحسب من طرح اسمه بمواصفات أساسية وملحّة لهذه المرحلة. والأهمّ أنّه ليس مرشّح تحدٍّ، بل هو مرشّح من خارج الاصطفافات والتكتّلات.
يعيش الفريق الداعم لسليمان فرنجية ازدواجية غريبة عجيبة، ينطلق المنضوون في هذا الفريق من ترشيحهم له ليهاجموا خصومهم وخصومه، معتبرين أنّ أيّ مرشّح آخر هو مشروع مؤامرة خارجية، تارة يصوّرونه على أنّه مرشّح الأميركيين وتارة ورقة سعودية وطوراً محاولة قطرية. ويتعاملون مع أي مرشّح آخر على أنه تابع للفريق الخصم بالتالي مرشّح مواجهة، فإن توافق الفرقاء على الضفّة الأخرى على ترشيح شخصية من خارج أطيافهم الحزبية تتحوّل هذه المسألة إلى مجرد "تقاطع" بين فرقاء لا يجمعهم شيء. إذا هي معضلة اختيار محازب كما هي معضلة التوافق على غير حزبي.
نجح الثنائي الشيعي أو الوطني، بتوحيد الفرقاء المسيحيين المتخاصمين
نجح الثنائي الشيعي أو الوطني، بتوحيد الفرقاء المسيحيين المتخاصمين. كان خطاب الثنائي في المرحلة السابقة يستخف بالمرشح النائب ميشال معوض، مصرّا على اعتباره مرشحاً اختبارياً أو واجهة بانتظار تظهير من رشحه لمرشّح جدّي، وركّز الثنائي على نقطة غياب مرشّح يدعمه التيار الوطني الحرّ وكانت العين على كتلة الحزب التقدمي الاشتراكي والتي لطالما قيل أنّ زعيم الحزب وليد جنبلاط لا يمكن أن يتخلّى عن شريكه الرئيس نبيه بري. ولم يكن يمر تصريح إلّا ويقال فيه "أن الطرف الآخر لا يملك مرشّحاً، ولكنّه يرفض مرشحنا، فليتفقوا على مرشّح وليأتوا إلينا". وهذا ما حصل، توافق الفرقاء ذات ليلة وتقاطعوا على مرشّح ليس من صفوفهم، يتمتّع بحسب من طرح اسمه بمواصفات أساسية وملحّة لهذه المرحلة. والأهمّ أنّه ليس مرشّح تحدٍّ، بل هو مرشّح من خارج الاصطفافات والتكتّلات.
إلّا أنّ ردّ فعل الثنائي ومن يدور في فلكه كان مفاجئاً. أقلّه قياساً على تصريحات هذا الفريق نفسه. جهاد أزعور مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي ووزير المالية الأسبق في الحكومة اللبنانية، أصبح فجأة "مشروع احتلال ومواجهة وعنوان فرض وإقصاء". وانتقل الحديث عن أنّ فرنسا متمسّكة بمبادرتها القائلة بفرنجية لرئاسة الجمهورية ونواف أو تمام سلام لرئاسة الحكومة، وعدم الممانعة الأميركية، وغياب الفيتو السعودي الذي وُصف على أنّه يعني تأييداً سعودياً لفرنجية، وغاب الحديث عن الدعم القطري والأميركي لوصول قائد الجيش العماد جوزيف عون لسدّة الرئاسة، ليصبح أزعور هو الورقة الأميركية وأنّ السعودية تستطلع فرص دعمه بل أنّها تدعمه، وبدأ الحديث ترهيباً من الاحتمالات المفتوحة التي يمكن أن تنتج عن فوزه في الانتخابات. حتى وصل الأمر بتحميل المسؤولية لمن يدعم أزعور عمّا ما يمكن أن تؤول إليه الأمور من تطورات وتطورات هنا، ليس المقصود بها التطور والحداثة طبعاً.
لافتة كانت محاولة منع أزعور من الخروج بعدد أصوات يفوق الستين. فالعين على فرنسا، ومن الضروري الظهور بمظهر من يملك مشروعية في الترشّح من خلال حصد نسبة مقبولة من الأصوات. لهذا كان التركيز على محاولة تقليص الفارق في الأصوات بين المرشحين. ومحاولة الضغط على جنبلاط للخروج من دائرة دعم أزعور. فالأصوات هنا ستتم ترجمتها خلال لقاء الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون بوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان. والحراك الدولي في المنطقة معطوفاً على الحراك الإقليمي.
وهكذا وما كادت تنفَض الجلسة الانتخابية، بدأت تتسرب معلومات عن انسحاب أزعور من هذه المعركة، والفريق الذي اتّهم أزعور بأنه مشروع خارجي كان أوّل المبادرين إلى تلمّس أجواء العاصمة الفرنسية وما سيرشح عنها من معطيات. وبدأ هذا الفريق بتحليل ورصد أبعاد تعيين وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان موفدا خاصا إلى لبنان. فالمبادرة الفرنسية فرنجية - سلام لا تعدّ تدخّلا أو فرضاً، طالما هي تلاقي رغبة فرقاء في الداخل وهذا ينطبق على جهة واحدة فقط. أمّا أي تلاقٍ خارجي مع فريق داخلي يملك تصوّرا آخر فهذا يعدّ تآمراً ومغامرة بمصير البلاد والعباد.
يكثر الحديث في بيروت هذه الأيام عن دعم سوري مستجدّ لسليمان فرنجية بعد تعهدات تتصل بعلاقة دمشق بفرقاء محلّيين. كما يقول سعاة الخير أنّ الرياض أبدت مرونة بموضوع فرنجية بل هي رحّبت بما تمت مفاتحتها به في هذا الإطار من حرص لبناني على تلبية شروط دول الخليج. ولا شكّ أنّ التوافقات التي شهدتها المنطقة بين السّعودية من جهة وإيران وسوريا من جهة أخرى، كان لها انعكاسها على الداخل اللبناني المأزوم، ولكن لجهة ترجيح كفّة على أخرى.
ومن هذا المنطلق يصبح من الجائز بالنسبة لفريق الحديث عن تأثير هذا الخارج والإقليم على لبنان، بل أنّ تفاهمات الخارج على مستقبل لبنان تصبح موضع ترحيب وقبول. ولا بأس من الاعتراف بأنّ نسبة كبيرة من اللبنانيين لا ترى ضرراً بعودة الوصاية السورية على البلاد، تقابلها نسبة لا بأس بها تمنّت على الرئيس الفرنسي خلال زيارته الأخيرة لبيروت أن نعود إلى زمن الانتداب. ويمكن لنا أن نضيف المزيد من الدول التي يأمل بعض اللبنانيين أن يكونوا تحت حكمها، ولكل حساباته وأسبابه.
ولكنّها المرة الأولى فعلاً التي نرى فيها أغلبية القوى المسيحية وأكبرها تلتقي على خيار واحد، وإن صحّ ما يقوله الفريق الآخر. فلقاء المسيحيين ليس بإيحاء خارجي، بل أنّ الرجل كان جنبلاط أول من طرح اسمه، وحين طُرح بدا للبعض أنّ الأمر غير ممكن في ظل أحزاب مسيحية تسعى لأن تكون هي صاحبة الفضل في الترشيح، بالتالي التوظيف والاستثمار. ولكن الأمر حصل وتوحدت القوى المسيحية ولو مرحلياً على خيار رئيس يمثلهم في سدّة الرئاسة.
داخلياً اعتبر الفريق الداعم لفرنجية أنه فاز بحصوله على 51 صوتاً وأن أزعور خسر رغم حصوله على 59 صوتاً. المسألة المطروحة الآن خارجياً كيف سيتم التعامل مع هذه النتائج؟ وكيف سيتم إقناع القوى المسيحية الأكبر تمثيلاً بأنّ صوتها غير ذي شأن في الحسابات الدولية وإن كانت هذه هي حسابات الخارج فعلاً على ما يروّجون. وللغد كلام آخر.