"مع الوقت يصحّح الاقتصاد نفسه من نفسه". هذا ما افترضه آدم سميث عالم الاقتصاد في القرن الثامن عشر، وطبّقه لبنان بشكل مشوّه في القرن الواحد والعشرين. فجملة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الشهيرة "بكرا بيتعوّدوا" التي "رنّت" في آذان اللبنانيين ذات ربيع من العام 2020، حين ارتفع الدولار إلى 4000 ليرة، تثبتها الحقائق والأرقام. المواطنون تأقلموا مع الانهيار، وتدجّنوا مع "ليلرة" ودائعهم، والارتفاع الهائل في الاسعار. وحركة الاعتراض تحوّلت إلى غيمة صيف، تمطر في المناسبات، إن لم نقل أنّها أصبحت تدار عبر أداة التحكّم عن بعد، "Remote control"، من قبل بعض الجهات الداخلية أو الخارجية.

تظهر المؤشّرات المصرفية التي نشرتها "جمعية المصارف" للفترة الممتدّة من 30 أيلول 2019، ولغاية 30 نيسان 2023، مجموعة مهمّة من المعطيات التي تؤكّد بالأرقام المسار المتّبع لحلّ الأزمة الاقتصادية.

تذويب الودائع

تراجع في غضون أقلّ من أربع سنوات حجم الودائع في القطاع المصرفي من 170.5 مليار دولار إلى قرابة 97.7 ملياراً وبنسبة بلغت 42.6 في المئة. وبالتفصيل فقد انخفضت الودائع بالعملة الأجنبية من حدود 124 مليار دولار في 30 أيلول 2019 إلى 93.9 ملياراً في 30 نيسان 2023. أمّا الودائع بالليرة فكانت تساوي 69.5 ألف مليار ليرة، تعادل 46.3 مليار دولار، انخفضت في الفترة نفسها إلى 56.8 ألف ملياراً. لكنها أصبحت تعادل 3.7 مليار دولار، وذلك بسبب تخفيض سعر الصّرف الرسمي في شباط 2023 بمقدار عشرة أضعاف من 1500 ليرة إلى 15 ألف ليرة.

الانخفاض الهائل في حجم الودائع بالمقارنة مع الامتداد الزمني يصحّ عليه حرفياً مصطلح "تذويب الودائع". حيث اضطر صغار المودعين خلال هذه السنوات إلى سحب "تحويجة" العمر بـ "اللولار"، أي بالليرة على سعر صرف يقلّ عن سعر الصرف الحقيقي بنسبة تتراوح بين 50 و85 في المئة. وعلى سبيل الذكر فقط، فإنّ المودع اضطر في 21 آذار الفائت إلى سحب وديعته على سعر 15 ألف ليرة للدولار، في حين كان سعر الصرف في السوق الموازية يسجل 143 ألف ليرة للدولار. ما يعني أنّ المودع خسر بكل دولار سحبه 128 ألف ليرة، أو ما يعني تقنياً أنّه تكبّد "هيركات" بنسبة 89 في المئة.

الهروب إلى العقارات

جزء آخر من الودائع لا يقلّ بحسب التقديرات عن 20 مليار دولار تحوّل إلى قوالب اسمنتية فارغة. حيث عمد أصحاب الودائع المتوسّطة إلى شراء العقارات وتحديداً الشقق في المدن، خوفاً من تبخّر ودائعهم. فأصيبوا بالخسارة مرّتين، مرة بسحب ودائعهم بأقل من قيمتها الحقيقية، خصوصاً في مراحل الأزمة المتقدمة. ومرة في تراجع أسعار العقارات نتيجة انخفاض الطلب.

إهمال الحلول الجدية والعادلة

في المقابل لو تمّ التوافق على خطّة حكومة الرئيس حسان دياب، التي أنجزت بالتعاون مع الاستشاري "لازارد" في مطلع الأزمة، لكانت حفظت الودائع لغاية 500 ألف دولار، وأرجعت بقيمتها الحقيقية. ولم تكن نسبة "الهيركات" على الودائع الكبيرة لتتجاوز 20 في المئة. إلّا أنّ الهروب من تحمّل المسؤولية نقل العبء الأكبر إلى كاهل المواطنين، وجرى تمويل الانهيار بالتضخم الفاقع. فتحمّل المودعون ومن خلفهم جميع المواطنين الخسائر، فيما نفد أصحاب كبار الرساميل بـ "ريش" ودائعهم إمّا تهريباً وإما "تنييماً"، إلى حين الاتفاق على توزيع الخسائر بما يضمن مصلحتهم ولا يعرّضهم لفقدان أموالهم.

المصارف والقروض

من جهة أخرى تبيّن الأرقام تراجع حجم التسليفات للقطاع الخاص من حوالي 54.6 مليار دولار في 30 أيلول 2023 إلى حدود 9.8 مليار دولار، وبنسبة بلغت 82 في المئة. وبالتفصيل فإنّ التسليف بالليرة تراجع من حدود 24429 مليار ليرة كانت تعادل 16.2 مليار دولار، إلى 13693 مليار ليرة أصبحت تعادل 912 مليون دولار، بعض تخفيض سعر الصرف الرسمي إلى 15 ألف ليرة.

أمّا على صعيد الدولار فقد تراجعت التسليفات من 38.2 مليار دولار، إلى 8.9 ملياراً للفترة نفسها. وقد سُدّد القسم الأكبر من هذه المبالغ بالليرة اللبنانية على سعر صرف 1500 ليرة، في الوقت الذي كان فيه سعر الصرف يرتفع باضطراد. الأمر الذي حرم المصارف من إمكانية إعادة الودائع للمودعين بقيمتها الحقيقية، وحرم الاقتصاد من التسليفات التي تعتبر أساسية في الاستثمار وبالتالي النمو.

الكتلة النقدية بالليرة "تجنّ"

مقابل هذه الأرقام الخطيرة كانت الكتلة النقدية بالليرة (M1) ترتفع بشكل جنوني. إذ ارتفعت من 5572 مليار ليرة في 30 أيلول 2019، إلى حدود 76 ألف مليار في شباط 2023، قبل أن تعود وتنخفض إلى 36642 مليار ليرة في نهاية نيسان بسبب هندسات مصرف لبنان، وتعمّده امتصاص الليرة وضخّ الدولار على منصّة صيرفة بكلفة باهظة. وقد دفعت طباعة الليرات بهذا الشكل إلى إفلات وحش التضخّم من عقاله، وفاقت نسبته منذ بداية الأزمة 2000 في المئة. الأمر الذي أدى إلى إفقار المواطنين ولاسيّما موظفي القطاع العام الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة.

المصارف و"اليوروبوندز"

من الأمور التي يمكن ملاحظتها في المؤشّرات المصرفية، هو تخلّي المصارف عمّا تحمله من سندات "اليوروبونذز"، أو ما يعني سندات الدين بالعملة الأجنبية. فقد انخفضت محفظة المصارف من سندات "اليوروبوندز" من 14.8 مليار دولار في نهاية العام 2019 إلى 2.8 مليار دولار في نهاية نيسان الفائت. واللافت أنّ نسبة الانخفاض الأكبر حدثت في الفترة التي سبقت إعلان الدولة اللبنانية عن التخلّف عن سداد الديون الأجنبية.

الموظفون في المصارف يدفعون الثمن

أمام كل هذه المؤشّرات السلبية تراجع عدد فروع المصارف بنسبة 26 في المئة. فقد أقفل خلال سنوات الأزمة الأربعة 276 فرعاً مصرفياً. في المقابل تراجع عدد الموظّفين في القطاع من 24704 موظفاً إلى 16481 موظفاً. وقد خرج قسم كبير منهم بتعويضات زهيدة لا تتناسب مع التضخم الحاصل. وهذا يعود بحسب مصادر نقابة موظفي المصارف إلى عدم الاتفاق مع جمعية المصارف على توحيد شروط الصّرف، من ضمن عقد العمل الجماعي. فتركت حرّيّة التصرّف لكل مصرف على حدة، بما يتناسب مع وضعه ومصالحه.