الاقبال الكثيف لم يكن وحده ميزة الانتخابات الأكثر إثارة في عمر الاستقلال التركي قبل مئة عام. وهي الوحيدة التي ستشهد دورة إعادة من بين كل ما سبقها من انتخابات. واعتبرها البعض تأسيساً لاستقلال ثانٍ، إذ تزاحمت فيها الرهانات الكبرى، من صراع الهوية، إلى التموضع الاستراتيجي والدور الدولي والاقليمي، ومن المعضلة الاقتصادية، إلى البحث في الأساس الدستوري والثقافي للدولة والنظام.

عندما تصل نسبة المشاركة في انتخابات عامّة في بلد ما إلى حدود التسعين في المئة، فإنّ ذلك يعني أنّ المواطن هناك يشعر أنّه يتمتّع بمستوى عالٍ من المشاركة في الحياة السياسية وأنّه قادر على التغيير، وتحسين النّمط السياسي القائم من خلال صناديق الاقتراع. أمّا تراجع النّسبة فمردّه عادة إلى قناعة الناخب أنّ نتائج الانتخابات لن تغير شيئاً، وأنّ السياسة لن تؤثر كثيراً في نمط حياة الناس، وأنّ اليأس والشعور بالعجز هو السائد بين عموم المواطنين.

ما ميّز الانتخابات العامّة التّركية في الأمس، هو الاقبال الكبير على مراكز الاقتراع، رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة وتداعيات الزلزال الكارثي، ما يعني أنّ هناك شعور عام لدى الأتراك بقدرتهم على المشاركة في صنع مستقبلهم، وهذا أساس الديموقراطية بغضّ النّظر عن النتيجة الرسمية للانتخابات ومن حملت إلى السلطة، وكيفية محاسبة الأتراك بعضهم لبعض وتبادل الاتهامات. أردوغان متّهم من خصومه بالفردية ونزعة التسلّط، وخصمه متّهم من الطرف الآخر بالتبعية وغياب القرار التركي المستقل!!

ضيّع أفضل الفرص لإطاحة أردوغان وإخراجه باكراً من الحياة السياسية

الاقبال الكثيف لم يكن وحده ميزة هذه الانتخابات الأكثر إثارة في عمر الاستقلال التركي قبل مئة عام. وهي الوحيدة التي ستشهد دورة إعادة من بين كل ما سبقها من انتخابات. واعتبرها البعض تأسيساً لاستقلال ثانٍ، إذ تزاحمت فيها الرهانات الكبرى، من صراع الهوية، إلى التموضع الاستراتيجي والدور الدولي والاقليمي، ومن المعضلة الاقتصادية، إلى البحث في الأساس الدستوري والثقافي للدولة والنظام. وكانت هذه الانتخابات أشبه بحرب سياسية ناعمة بين توجهين ورؤيتين ونظرتين متناقضتين ومفترق طرق حاسم في ملفات مهمة مثل: استقلال القرار الاستراتيجي، وصون الهوية الثقافية، ومكانة تركيا في العالم.

في هذه الانتخابات، تراجعت للمرّة الأولى نسبة الأصوات التي نالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الجولة الأولى، رغم اقتناصه المركز الأول. في ذلك مؤشّر على رغبة لدى الناخب التركي في إحداث التغيير. لكن من الواضح أيضاً أنّ منافسه كمال كليجدار أوغلو، لم يقنع الناخب نفسه بأنّه الشخصية المثالية لإحداث هذا التغيير، رغم التحالف الكبير الذي شدّ أزره في معركته، وتقدّمه اللافت بغالبية أصوات المدن الكبرى مثل اسطنبول وأنقرة وإزمير، حيث نبض المدينة وروح الشباب. ويخشى أن يكون قد ضيّع أفضل الفرص لإطاحة أردوغان وإخراجه باكراً من الحياة السياسية.

اضطلع الأكراد بدور بارز في الحيلولة دون فوز أردوغان بالرئاسة من الجولة الأولى للمرّة الاولى، بسبب تبنّي حزب العدالة والتنمية الحاكم سياسة المواجهة ضد حزب العمال الكردستاني وحلفائه، لكن حزب أردوغان أثبت أنّه لا يزال الحزب الأكثر شعبية بفارق ملحوظ على الساحة التركية. وفي المقابل نحت المدن الكبرى صوب المعارضة، ومع ذلك كشفت الانتخابات البرلمانية بأنّ لواء الحزب الحاكم فيها لا يزال حاضراً وجاذباً لثقة الناخبين. وترجع أسباب دعم الأكراد لكليجدار أوغلو بصورة رئيسية إلى المواجهة التي خاضها حزب الشعوب الكردي مع أردوغان في السنوات الماضية، وأيضاً للوعود التي طرحها كليجدار أوغلو بتبني نهج مختلف عن حكومة أردوغان في التعامل مع الملفّ الكردي.

جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية ستكون أكثر ضراوة من الأولى

نسبة الخمسة في المئة التي نالها المرشّح القومي المتطرف وكاره الأجانب سنان اوغان، سلّطت الضوء على أهمية الكتلة القومية التي يُمكن أن تلعب دوراً حاسماً في تحديد هوية الرئيس المقبل في جولة الإعادة. هذه الكتلة تعارض أردوغان، على خلفية لأوضاع الاقتصادية أو طريقة إدارته السياسية. لكنّ موقفها صارم ازاء الأكراد ولاسيما أنصار حزب العمّال الكردستاني. في ضوء ذلك من المستبعد أن يدعم أوغان كليجدار أوغلو في الجولة الثانية، لأنّ الأخير سيواصل تحالفه المهم مع حزب الشعوب الديموقراطي الذي يوصف بأنّه الواجهة السياسية لحزب العمّال.

من المؤكّد أنّ جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية ستكون أكثر ضراوة من الأولى، ولكن نظراً إلى مؤشّرات التّصويت الأحد، يبدو أردوغان هو الأوفر حظاً بالفوز خصوصاً إذا قرّر القومي أوغان وأنصاره التصويت له أو البقاء على الحياد. لكن أردوغان، حال فوزه، سوف يجلس سلطاناً على عرش تركيا مرتدياً عباءة لا تشبه كثيراً تلك التي دخل بها السلطة في البلاد نحو عقدين. صار محافظاً أكثر من كونه إصلاحياً، وأقرب للأوراسيين والشرق من أنصار التحالف مع الغرب، كما أنّه صار قومياً أكثر من ذي قبل. وفي حال نجح أردوغان في حكم تركيا لفترة جديدة فإنّه سوف يكمل رُبع قرن لم يسبقه إليها أحد في تاريخ الجمهورية، وبل ولم يسبقه إليها طيلة القرنين الماضيين من التاريخ الحديث سوى السلطانين العثمانيين عبد الحميد الثاني ومحمود الثاني.