القمح ذهب لبنان الأصفر. البطاطا ذهبه البني. الشمندر ذهبه الأبيض. النفط ذهبه الأسود. القنّب الهندي ذهبه الأخضر... جملٌ إنشائية "ترنّ" في آذان اللبنانيين منذ عقود، وعيونهم لا "تنبهر" إلّا بمشاهِد تداعي القطاعات الانتاجية الواحد تلو الآخر. وبدلاً من أن تكون هذه المنتجات نقية مثل الذهب، مرتفعة المردود على الخزينة والاقتصاد، نراها تضيف المزيد من الأعباء على كاهل الدولة والمواطن.
مؤخراً عاد الحديث عن زراعة القنّب الهندي "الحشيشة" ليحتلّ مساحة واسعة في النقاش الاقتصادي. فهذه الزراعة التنافسية التي أوصت بها دراسة "ماكينزي"، من ضمن رؤية لبنان الاقتصادية للسنوات (2020-2025)، قد تؤمّن مردوداً يصل إلى 4 مليارات دولار سنوياً. وكما العادة يقارن الرقم سريعاً مع مبلغ 3 مليارات دولار المنتظر أن يحصل لبنان عليه من صندوق النقد الدولي، مقابل شروط إصلاحية صعبة، أو حتى تكاد تكون تعجيزية بالنسبة للمنظومة. ليخلص النقاش إلى معادلة بسيطة فلنزرع "الحشيشة"، ونتأمل باستخراج الغاز والنفط، وننتهي من مشكلة لبنان الاقتصادية.
"القنّب الهندي" آمال منفوخة
تشير دراسة "إمكانات النموّ الاقتصادي من زراعة القنّب الهندي "الحشيش" في لبنان"، التي نشرتها "مبادرة سياسات الغد"، إلى مبالغة في تقديرات مفاعيل زراعة هذه النبتة للأغراض الطبّية والزراعية. خصوصاً لجهة العائدات، والمساحات المزروعة (1000 هكتار بحلول 2025)، ونسبة استقطاب المزارعين، والقضاء على الزراعة غير الشرعية، وسهولة الحصول على البذور من الخارج، وتصدير المنتجات وتصنيع المواد الطبية. وعليه تخلص الدراسة إلى ان "تحوّل لبنان إلى دولة رائدة في مجال الصناعات الابتكارية العالية القيمة، وإلى مركز لتصنيع المنتجات الدوائية (منها منتجات القنّب الهندي الطبية) على الساحة الإقليمية هي فكرة ملهِمة ومرحَّب بها (..). مع ذلك، وقبل استخلاص استنتاجات عن المنافع الاقتصادية لزراعة القنّب الهندي في لبنان، ينبغي إجراء تحليلات إضافية حول كيفية تحفيز المنتِجين للانتقال إلى القطاع الرسمي، وتنظيم إنتاج واستهلاك القنّب الهندي، ووضع إطار عمل مؤسسي تنظيمي شامل للقنّب الهندي يشمل الترخيص وضوابط الإنتاج، والتصنيع، والبنية التحتية لمراقبة وتصنيع المنتجات من القنّب الهندي خلال مرحلة التصدير، والمبيعات المحلية، والاستهلاك، والحوكمة، والآليات المؤسسية."
نظام طارد للإنتاج
مقابل الآمال التي تبنى نظرياً على زراعة القنّب الهندي، والتي بنيت قبلها على زراعة الشمندر وتصنيع السكّر، وقبلهما على التفاح.. واللائحة تطول من المنتجات والخدمات، يتّضح أنّ النظام المتّبع يُجهض أي مبادرة منتجة. "فالاقتصاد الذي تريده المنظومة هو الرّيعي"، يقول مدير مركز مبادرة سياسات الغد د. سامي عطاالله. وهذا ما يظهر بشكل واضح في السياسات الاقتصادية والمالية التي تؤمّن المال السهل والاستفادة السريعة، لأركان المنظومة على حساب تطوير القطاعات الانتاجية". ومن الطبيعي أن يكون هذا النظام المشبع بالريع والاحتكارات والنفوذ، طارداً للمشاريع المنتجة والمنافسة. وهو الأمر الذي لم يتغيّر حتّى بعد أن حطّت الأزمة أوزارها في العام 2019". وتُظهر دراسة أن جزءاً لا بأس به من المؤسسات التي أُنشئت في العقود الثلاثة الأخيرة كانت مالية ريعية تستفيد من الفوائد العالية وتداول سندات الخزينة. فبدلاً من أن تستثمر الأموال في الإنتاج، توظفها في الأسواق المالية أو تضعها في المصارف، وتتقاضى عليها عمولات تتراوح بين 8 و12 في المئة. واللافت بحسب عطاالله أنّ "قروض المصارف كانت تتوزع بين القطاعين العام والخاص في حقبة التسعينات بنسبة 30 و70 في المئة على التوالي. لكن هذه النّسبة عادت وتبدّلت منذ نحو عقدين، وأصبح الجزء الأكبر من التمويل يذهب إلى القطاع العام على حساب القطاع الخاص".
لا تعبئة للموارد
العبرة في تطور الدول من الناحية الاقتصادية، وتقدمها، لم تكن في يوم من الأيام مربوطة بحجم مواردها الطبيعية. فها هو السودان الذي وضع يوماً إلى جانب كل من استراليا وكندا في لائحة الدول التي يُعتمد عليها لسدّ نقص الغذاء العالمي، رغم ما يتوافر عليه من مقومات زراعية كبيرة، غارق في الجوع. ولم ينفع حتى ما ينتجه من ذهب وأصماغ بمئات الاطنان سنوياً، بانتشاله من أزماته. وعليه فإن المقياس هو "حسن تعبئة الموارد - resources allocation"، يقول الباحث في الاقتصاد السياسي البروفيسور بيار الخوري. والذي يقوم على دمج الموارد الطبيعية والبشرية بالخطط الاستراتيجية، للخروج بأفضل توليفة كفؤة. تعظم المردود من الموارد الموجودة". هذا ما لم يتوافر في لبنان، كما لم يتوافر في السودان والكثير من البلدان. وبحسب خوري فإنّ "التفريغ الممنهج للأرياف من القوى العاملة، بهدف تأمين اليد العاملة الرخيصة لنشاطات المدينة الاقتصادية، كان له بالغ الأثر في إضعاف القطاع الزراعي الإنتاجي، وبالتالي تقليص مردوده العام على الاقتصاد والخاص على الفلاحين". فمع نمو بيروت كمدينة متوسطية سياحية، تجارية وخدماتية، استُدرج الريف إلى المدينة. وفضّلت سواعد أبنائه الدخل الشهري الذي تؤمّنه القطاعات الناشئة، والآخذة في التطوّر في المدينة، على حساب الدخل الموسمي الذي تتيحه الزراعة. فغرقوا في اللعبة وغرقت بيروت بالضواحي الفقيرة وغرق الاقتصاد بالريع".
برميل مثقوب
انطلاقاً من الوقائع السياسية الاقتصادية والاجتماعية، التي لا تملّ من تكرار نفسها، يصبح من المستحيل على أي قطاع إنتاجي التحوّل إلى "دينمو" إقتصادي، حتى ولو كان القنّب الهندي. فهذه الزراعة المعوّل عليها لانتشال الأطراف وتحديداً البقاع الشمالي وعكار من الفقر، ستفقد الكثير من عوائدها متى تم تشريعها لأغراض طبية. فما تدرّه اليوم من عوائد على بعض المزارعين، رغم محدودية المساحة المزروعة، يعود لارتفاع نسبة المخاطر فيها، وزراعتها بـ "الأسود"، وتسويقها بالتهريب، واستعمالها للترفيه. هذا عدا طبعاً عن محاذير ضعف رقابة الدولة والتوسّع بإنتاجها لأغراض غير طبية بشكل هائل، في حال أصبحت زراعتها مسموحة. وما قد تتركه من آثار على المجتمع اللبناني وسمعة لبنان في العالم.
ما لم توضع استراتيجية واضحة للتنمية، سيبقى "ذهب" لبنان المكتشف وغير المكتشف، معبأ في "برميل مثقوب"، على حد وصف بيار الخوري. يتسرّب هدراً وفساداً ومنافع ضيقة، بوتيرة متفاوتة، ليتحول نحاساً على أرض الواقع.