قرر وزير المال يوسف الخليل بدء تطبيق الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة ابتداءً من أول كانون الأول 2022. وقد وجّه الخليل كتابًا إلى مصرف لبنان ينص على بدء احتساب سعر الدولار على خمسة عشر ألف ليرة على الضرائب والرسوم التي تستوفيها الجمارك اللبنانية على السلع والبضائع، وذلك بدءًا من مطلع الشهر المقبل.
ما لا يقال بوضوح أن سعر الدولار الجديد سيطبّق أيضًا على الضريبة على القيمة المضافة، بحكم أن نظام المعلوماتية للجمارك، لا يستطيع استيعاب أكثر من سعر صرف واحد للعملة، وبالتالي أي رفع لسعر الدولار الجمركي سينسحب تلقائيًا على سعر دولار الضريبة على القيمة المضافة.
بالطبع الهدف المعلن (والمحقّ) هو تخفيف الفارق بين ما يطبّقه التجار على المواطنين، وما يدفعونه للدولة (يحتسب التجار الضرائب والرسوم على سعر صرف السوق السوداء أي 40 ألف ليرة، ويدفعون هذه الضرائب والرسوم للدولة على سعر الـ 1500 ليرة)، وهو ما يُحقّق أرباحًا طائلة للتجار عن غير وجه حقّ، بحكم أن الضرائب والرسوم هي سيادية ولا يحقّ للتجار المتاجرة بها.
موازنة العام 2022 التي أُقرّت حديثًا في المجلس النيابي، تعوّل كثيرًا على هذه الزيادة بالدولار، لتمويل الزيادة في الأجور والمساعدات للقطاع العام، والتي وصلت إلى 3.3 تريليون ليرة (3300 مليار ليرة)! الجدير ذكره أن لبنان استورد في العام 2021 بقيمة 13.6 مليار دولار أميركي سلعا وبضائع، والتوقّعات أن يستورد بحدود الـ 14 مليار دولار أميركي في العام 2022. أي أن الاستيراد سيعود إلى مستوياته ما قبل الأزمة قريبًا، وهو أمر غريب لبلد منكوب، ولا يمكن تبريره إلا بتهريب السلع والبضائع خارج الحدود.
إلا أن تعويل الحكومة على رفع إيراداتها كما هو متوقّع في موازنة العام 2022 ليس بأمرٍ مضمون، خصوصًا أن عمليات التهريب إلى الداخل اللبناني نشطت، وأصبح هناك شركات (أو أشخاص) مختصّة في نقل السلع والبضائع من بلد المنشأ (الصين بالدرجة الأولى) إلى لبنان من دون المرور بالجمارك. وهنا، عبارة يستخدمها هؤلاء للتعبير عن هذا الأمر بالقول «Door to door» أي من الباب إلى الباب من دون أن يتعرّف التاجر اللبناني الى أي شيء! بالطبع الكلفة أقل على التاجر، الذي سيسعى إلى بيع هذه السلع بدون فواتير أو بيعها خارج الحدود تفاديًا لأي ملاحقة.
الاقتصاد أصبح بجزءٍ كبيرٍ منه يعتمد على «الكاش»، وهو ما لا يمكن لوزارة المال مراقبته، وبالتالي لا أحد يمكنه معرفة كيفية السيطرة على الأسعار التي سيفرضها التجار. فهل لوزارة الاقتصاد والتجارة، وبالتحديد مديرية حماية المستهلك، القدرة على رقابة الأسعار؟ الجواب كلًا، وذلك لعدّة أسباب:
- أولًا: لا موارد مالية للمديرية كافية للقيام بعمليات رقابة بشكل منظّم، بمعنى آخر موارد مالية تكفي تمويل الشق التشغيلي لعملية الرقابة.
- ثانيًا: عديد المديرية غير كافٍ للقيام بمهمّة على مساحة الوطن، وهو ما يعني أنه حتى ولو كان هناك القدرات والرغبة، فلا إمكان لتغطية أكثر من 100 ألف مؤسسة أصبحت تعمل بالتجارة، هذا بالإضافة إلى الأفراد الذين يمارسون مهنة التجارة بدون تصريح رسمي.
- ثالثًا: العمليات التجارية التي تتمّ بالتجزئة، تتمّ بمعظمها بـ «الكاش»، ولا يوجد أي إعلان للأسعار بالليرة اللبنانية كما ينص عليه قانون حماية المستهلك، وهو ما يعني استحالة الكشف الفعلي على الأسعار من قبل مديرية حماية المستهلك إلا لبعض القطاعات.
- رابعًا: عمليات التهريب عبر الحدود لا تخضع لأي رقابة، وبالتالي لا يمكن لعناصر مديرية حماية المستهلك أن يقارنوا بين ما هو مستورد وما يباع محليًا. وبالتالي هناك استحالة للكشف عن العمليات إلا في قلّة قليلة من القطاعات.
- خامسًا: البيع بـ «الكاش» يعني تلقائيًا التهرب الضريبي، خصوصًا إذا كانت الأسعار أعلى مما تنصّ عليه القوانين. وبالتالي لا يمكن لوزارة المال معرفة الحجم الحقيقي لعمليات البيع للتاجر.
- سادسًا : المخالفات غالبًا ما تحظى بغطاء من بعض أصحاب النفوذ، وبالتالي حتى لو هناك رغبة وقدرة على الرقابة، هناك موانع إدارية تمنع القيام بهذه العملية.
من هذا المنطلق، نرى أن الأسعار سترتفع بشكلٍ عشوائي وبخلاف كل القوانين وبخلاف كل المعايير الأخلاقية.
قرار وزير المال بدء تطبيق الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة في الأول من الشهر المقبل، أربك إلى حدٍ معين التجار الذين اعتمدوا خيارا من بين اثنين:
التوقّف عن البيع خصوصًا بانتظار وضوح الصورة يوم الجمعة المقبل (أي تاريخ بدء تطبيق قرار وزير المال).
الإكتفاء ببيع التجزئة ورفع الأسعار بشكل أعلى مما يجب، بهدف التحوّط ضد ما يسمّونه مخاطر الخسائر (!!).
في كلتا الحالتين الرقابة شبه معدومة، والمواطن لا حول له ولا قوة، خصوصًا مع انحسار الخيارات. وهناك العديد من الأصناف التي ترفضها الدول المجاورة لأسباب تتعلّق بالمعايير الصحية، يتمّ استيرادها إلى لبنان وبيعها للمواطنين من دون حسيب أو رقيب. ومن بين هذه المخالفات يمكن ذكر مكونات بعض السلع والمواد الغذائية أو تاريخ انتهاء الصلاحية...
إلى هذا، من المتوقّع أن يبدأ موظّفو القطاع العام بقبض المساعدات على أجورهم، والتي أقرّت في موازنة العام 2022، إلا أن هذا الأمر لا يعني أنهم عوّضوا عن الارتفاع في الأسعار، وذلك بسبب عدّة عوامل نذكر منها:
- أولًا: التاجر لا يقبض ثمن السلع والبضائع إلا نقدًا (كاش)، وبالتالي هل سيتمكّن الموظّف من سحب كل راتبه من حسابه المصرفي بما فيه الزيادات التي أُقرّت؟
- ثانيًا: بفرضية أنه استطاع سحب أجره من حسابه المصرفي، يبقى السؤال عن حجم الكتلة النقدية بالتداول والمضاربة على الليرة، عملًا بمبدأ «لا يقتل الليرة إلا الليرة»، وهو ما سيرفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء إلى مستويات عالية لن يستطيع لجمها إلا مصرف لبنان عبر ضخّ الدولار في السوق أو عبر آليات أخرى.
- ثالثًا: من قال إن الزيادة في الأجور ستكفي لتغطية الارتفاع في الأسعار الذي سيقوم به التجار؟
- رابعًا: ماذا سيحصل بفرضية أن الزيادة في الأجور كانت أعلى من الارتفاع في الأسعار؟ في الواقع سيتحوّل الارتفاع في الأسعار من ارتفاع اصطناعي سببه التجار إلى ارتفاع طبيعي نتاج زيادة الطلب.
لكل هذه الأسباب، نرى أنه وعلى الرغم من أحقية رفع الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة ورفع أجور القطاع العام القابع كما باقي المواطنين اللبنانيين تحت ثقل الأسعار، لم يكن هناك من عدالة في قرارات الحكومة، خصوصًا أن التجار الذين حققوا أرباحًا طائلة من فارق سعر السوق السوداء والسعر الرسمي على الضرائب والرسوم، والرسوم والضرائب على الأملاك البحرية... وغيرها من الأمور، لم تأت الموازنة على ذكرهم.
لذا نرى أن النيات الحسنة لا تكفي في هذه الحالة، وكان الأجدى بالحكومة المحافظة على القدرة الشرائية للمواطن من خلال وقف التهريب الذي يستهلك نصف دولارات السوق، والتلاعب بالأسعار الذي يمارسه التجار، ووقف التطبيقات التي تعكس أسعار التهريب والمضاربة. إلا أنه وكما هو الحال في كل القرارات المصيرية، تذهب السلطة نحو القرارات السهلة وليس القرارات الفعّالة.
وهنا قد يقول البعض إن وقف التهريب ليس بأمر سهل وهذا حق، إلا أن ما يجب معرفته أن مجموع الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، وتلك الموجودة في الموازنة أدخلت البلد في أتون التضخم! وحده مصرف لبنان قادر على لجم هذا التضخّم، من خلال ضخ الدولارات في السوق، ولكن أيضًا، وبحسب توقّعاتنا، من خلال مجموعة إجراءات سيتم الإعلان عنها قريبًا، وستكون عادلة لأنها ستصيب المخالفين وليس المواطنين.