منذ قديم الزمن كانت البشرية عرضة لمفاهيم أو ظواهر معروفة في علم الإقتصاد (كالكفاح من أجل العيش، والإستعمار، والإستعباد، والمنافسة الإقتصادية والمواجهة الجيو – إقتصادية) والتي أدّت إلى ترسيخ هذه المفاهيم كقوانين ليس منصوص عليها في المناهج العملية. وقد يكون الهدف منذ ذلك طمس الأهداف الحقيقية خلف المواجهات الإقتصادية.
الحرب الإقتصادية أصبحت حقيقة يومية في العلاقات الدولية ولها تأثيرها على البشر في كل بقاع الأرض. وإذا كانت أبعاد العلاقات الدولية في البدء علاقات جيوسياسية، إلا أن هذا الإطار تطوّر ليُصبح بُعدا جيو إقتصاديا بإمتياز.
النظر إلى التاريخ الحديث، يُخبرنا أن السعي إلى القوة بُعيد إنتهاء الحرب العالمية الثانية أدّى إلى ظهور قطبين مع ما واكبه من مخاطر ومواجهات على مصادر الطاقة مُعلّلة بضعف الصناعة في البلدان المتطورة ورغبة هذه البلدان في غزو العالم تجاريًا وهو ما أعطى العلاقات الدولية منحًا جديدًا من الصراع الإقتصادي الذي كان يُترجم أحيانًا إلى صراع عسكري محدود.
هناك ثلاث حقبات أساسية مرّ بها الإنسان على مرّ التاريخ:
الأولى إمتدّت حتى الثورة الصناعية وركزّت على إعطاء الأولوية للبقاء على الحياة (survival mode) ؛
الثانية إمتدّت من الثورة الصناعية حتى نهاية القرن الماضي وعنوانها إستمرار حياة الرخاء أو العودة إلى الوراء ؛
والثالثة منذ تسعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا وعنوانها الهيمنة على قرار الإقتصادي العالمي.
تحتل مسألة الموارد الإقتصادية المركز الأول في تطور الحضارات. وإذا كانت الحاجة الى هذه الموارد بدائية في البداية، إلا أنها أخذت منحًا أخر الوقت وأدّت إلى خلق آلية مواجهة إقتصادية معقدة تمثلت بالقرصنة التي أصبحت تُشكل رافعة إقتصادية هائلة. وهو ما دفع الدول إلى التحصّن عسكريًا بهدف حماية الموارد الموجودة ضمن حدودها وهو ما أُعتبر أولوية إستراتيجية لبعض الدول في القرن السابع عشر. وأتى الإستعمار كإمتداد لهذا المبدأ خالقاً بذلك ديناميكية معقدة للمواجهات بين الدول. والأرباح التي نتجت عن الإستعمار دفع بعض الدول العظمى إلى مواجهات عسكرية بين بعضها البعض وبدأ العالم يشهد ما يُسمّى السيطرة على الطرق التجارية وحمايتها.
الفترة التي تلت (1700-1815) شهدت حروبًا خلقت تحالفات وأقطابا مضادة بهدف حماية الموارد وهو ما ودفع بعض الدول إلى محاصرة دول أخرى وهو ما أرخى بثقله على الإقتصاد. هذه المواجهات الإقتصادية أثرت بشكل أساسي على منحى المواجهات التي أصبحت عسكرية وبذلك أصبحت الحرب الإقتصادية موجودة على نطاق عالمي بعدما كانت على نطاق محلّي بين عشائر وعائلات. هذا التداخل بين المواجهات الإقتصادية والعسكرية خلق لأول مرة في التاريخ آليات تمدّد المواجهات الإقتصادية مع الوقت. مثلاً، خلق نابوليون نظام دفاع إقتصادي تمثل بحظر المنتوجات البريطانية في فرنسا وسخّر القوى العسكرية لمراقبة هذا الحظر.
الحرب بين بريطانيا وفرنسا أدّت لإضعاف إقتصاداتهما وهو ما دفع البريطانيين إلى إرسال مفاوضين إلى فرنسا بهدف خلق تعاون تجاري بين الدولتين على الرغم من الحرب بينهما. من هنا نشأ الصراع الأيديولوجي بين الدول العظمى وأصبحت المواجهة على صعيد فكري يُحدّد موازين القوى الإقتصادية بين هذه الدول.
الحرب العالمية الأولى كرّست مبدأ «عسكرة الإقتصاد». وخير دليل على ذلك رسالة الملحق العسكري الأميركي في باريس الشهيرة والتي أتت بُعيد إنتهاء الحرب العالمية الأولى وتحدّثت عن أهمية محاربة العدو ليس فقط على الصعيد العسكري، إنما أيضاً على الصعيد الإقتصادي عبر الإستيلاء على موارد إقتصاده. وهنا نشأ في العالم ما يُسمّى بالغزو الإقتصادي.
الغزو الإقتصادي الفعلي بدأ في القرن التاسع عشر من خلال زرع مستعمرات، والذي وعلى عكس الغزو العسكري رفع من أهمية الدولة وقوتها عبر زيادة تأثير هذه الدولة على باقي الدول. أي بمعنى أخر يستطيع الغزو الإقتصادي تحقيق ما يعجز عن تحقيقه الغزو العسكري عبر خلق ما يُسمّى بـ «الفضاء الأساسي» للدولة وهو فضاء يمتد أبعد من حدودها! وهذا المفهوم كان موضوع نقاش على طاولة القرار في عهد هتلر تحت عنوان «الفائدة الإستراتيجية من الغزو العسكري مقارنة بالغزو الإقتصادي».
أخذت الهيمنة الإقتصادية، منذ القدم وحتى يومنا هذا، اتجاهاً ثابتاً في العلاقات بين الدول الكبرى، وفي تحديد موازين القوى. وفي قول شهير للباحث الأكاديمي إدوارد إيرل: «لا فصل بين القوة الإقتصادية والقوة العسكرية إلا في المجتمعات البدائية». ففي عصرنا الحاضر، توسعت الحضارة الأميركية لتنتشر في كل دول العالم وهذا ما طرح أسئلة حول مصير الهيمنة الإقتصادية وتشابكها مع الهيمنة العسكرية. ولكن الأصعب في التحليل هو كيفية كشف الطريقة التي تظهر فيها هذه الهيمنة والتي تأخذ كل الأشكال (عسكرية، ثقافية، إجتماعية...). وتبقى الهيمنة الإقتصادية حجر الأساس في الحرب الإقتصادية عبر محاولة القوى العظمى إنشاء مناطق تبادل تجاري حر حولها لقطع الطريق على العدو (مثلاً حالة الإتحاد الأوروبي أو حالة روسيا مع الدول المحيطة بها أو حالة الصين مع طريق الحرير). ومن بين الأشكال التي تظهر بها الهيمنة الإقتصادية، هناك العامل الديني المذهبي الذي يسمح لدولة تحت شعار الوحدة الدينية بالهيمنة على إقتصاد بلد منطقة (قريبة أو بعيدة).
أخذت سياسات الهيمنة الإقتصادية التي قامت بوضعها الدول العظمى خلال فترات الإستعمار وما تلاها، بالتحوّل تحت تأثير التفوّق الجيوسياسي، العسكري والتجاري للولايات المتحدة الأميركية التي فرضت على العالم نموذجًا جديدًا ينصّ على أن على دولة عظمى تُريد فرض هيمنة، أن تبحث عن أفضل تموضع ممكن ضمن هيكلية القيم الأخلاقية، القوانين وقانون الأسواق. هذه الطريقة لتطويق الهدف تستدعي طريقة تفسير لهذه المواجهات الإقتصادية الصامتة التي فرضتها الولايات المتحدة في أيام السلم والحرب.
نهوض الإقتصاد الأصفر فرض قواعد جديدة تقوم على الأمن الإقتصادي. وهذا ما أدّى إلى وضع سياسات تضمن هذا الأمن الإقتصادي وتسمح بالحفاظ على المستوى الحالي وبنفس الوقت تأمين الإستمرارية. وأصبح هناك بلوكات مؤلفة من صديق-منافس تتنافس فيما بينها بشكل متواصل. هذا التنافس يأخذ أبعاداً جديدة وكبيرة مع إضمحلال الموارد والتحديات التي يخضع لها العالم في هذا القرن.
المواجهة الحالية بين دول العالم هي على الشكل التالي: من جهة هناك منافسة إقتصادية هائلة بين أكبر إقتصادين في العالم - عنيت بذلك الإقتصاد الأميركي والإقتصاد الصيني، ومن جهة أخرى تُحاول روسيا أن تستقطب حولها دولًا أخرى من بوابة البريكس لتشكيل تكتّل يقف في مواجهة القوة الأميركية – الأوروبية والتي أثبتت حتى الساعة قدرتها على التأثير في المنحى الإقتصادي العالمي.
تقول بعض التقارير الصادرة عن باحثين أن المواجهة الحاصلة حاليًا في أوكرانيا هي حرب على موارد المحيط المتجمد الشمالي والذي تم تصنيفه منذ عقود على أنه منطقة غنية بالنفط والغاز الطبيعي. وتُقدّر الـ USGS الموارد الموجودة في هذا المحيط بأكثر من 90 مليار برميل من النفط و 1670 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي و 44 مليون برميل من الغاز الطبيعي السائل. هذا الوضع يجعل القطب الشمالي والمنطقة القطبية الشمالية مرغوبة بشدة من قبل البلدان المجاورة. لكن من هي البلدان المجاورة؟
بحسب القانون الدولي، لا يوجد بلد يمتلك حاليًا القطب الشمالي أو منطقة المحيط المتجمد الشمالي المحيطة به. والدول الخمس الحدودية في القطب الشمالي، روسيا، كندا، النرويج، الدنمارك، والولايات المتحدة، وتقتصر حقوقها على منطقة اقتصادية خالصة تبلغ 200 ميل بحري (حوالي 370 كيلومترًا) حول سواحلها. وبالتالي فإن المساحة المتبقية، والتي تمثل أكثر من مليون كيلومتر مربع، غير مخصصة لأي دولة والسلطة الدولية لقاع البحار هي التي تدير هذه المنطقة. والمُشكلة أن روسيا تُطالب بما يوازي 60% من هذه المنطقة نظرًا إلى الإمتداد الجغرافي لروسيا، وهو ما يُشكل مُشكلة كبيرة على صعيد العلاقات الدولية.
السيناريو المتوقّعة للمرحلة المقبلة هو إنقسام العالم بين قطبين إقتصاديين: الأول يضمّ الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي واليابان وتايوان وأستراليا والعديد من الدول في العالم، والثاني يضمّ روسيا والصين وإيران وغيرها من دول المحور. والمُشكلة التي تطال القطب الثاني هو تعلّق الإقتصاد الصيني بالقطب الأول من باب التصدير، وبالتالي فإنه من مصلحة الصين التي تُعاني من ضعف الطلب الداخلي، الحفاظ على علاقات إقتصادية تجارية متينة مع الغرب وهو ما قدّ يُضعف القطب الثاني لصالح القطب الأول.
من هذا المُنطلق، نرى أهمية المواجهات الإقتصادية بين الدول في تفسير ما يحدث حاليًا. كما وهناك شبه إستحالة لصياغة قوانين جديدة في ظل وجود لاعبين عمالقة كالولايات المُتحدة الأميركية والصين وهو ما يعني إستمرار الوضع إلى ما هو عليه إلى فترة طويلة.