شكّلت زيارة رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية إبراهيم رئيسي إلى سوريا حدثاً مفصلياً في منطقة المشرق العربي والشرق الأوسط. فهذه هي الزيارة الأولى لرئيس إيراني إلى دمشق منذ اندلاع الحرب في هذا البلد قبل اثني عشر عاماً، وهي الحرب التي رأت فيها إيران محاولة من قبل الولايات المتحدة الأميركية لقلب نظام الحكم في سوريا، تمهيداً لاسقاط الدولة في إطار المخطط الأميركي لإعادة رسم الجغرافيا السياسية في منطقة المشرق العربي، بما فيها لبنان وسوريا والعراق بغية جعلها منطقة نفوذ إسرائيلي، تساهم في منع إيران من الوصول إلى شرق المتوسط ومن التواصل مع حلفائها من فصائل المقاومة، أكان ذلك في لبنان أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
البعد الجيوسياسي للزيارة
هذا ما دفع إيران إلى المبادرة منذ بداية الحرب على سوريا إلى التدخل لدعم الدولة السورية في مواجهة خصومها. وقد أخذ هذا الدعم البعد السياسي وأيضا الاقتصادي عبر إرسال قوافل النفط المنتجة عبر البحر إلى دمشق، والعسكري الذي جاء على شكل إرسال خبراء من الحرس الثوري الإيراني لتقديم المشورة لضباط الجيش العربي السوري، إضافة إلى إرسال الاف المتطوعين من إيران والعراق إلى جانب مقاتلي حزب الله للقتال إلى جانب الجيش العربي السوري. وقد مكّن هذا الدعم دمشق من الصمود أمام محاولات خصومها بهدف اسقاطها، من دون إغفال أهمية الدعم الروسي لسوريا، خصوصا بعد التدخل العسكري الروسي المباشر بعد أيلول سبتمبر 2015.
من هنا فإنّ زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي إلى دمشق تأتي في وقت تجاوزت فيه هذه الأخيرة التهديد الوجودي الذي كان يستهدفها، بما جعل من هذه الزيارة إعلاناً رسمياً من قِبَل كل من سوريا وإيران بأنه انتصار في المعركة التي شُنّت ضدهما، خصوصاً أنّ إيران تعتبر نفسها شريكة في هذ النصر. كذلك فإنّ هذه الزيارة تأتي بعدما استعادت الدولة السورية سيطرتها على أكثر من سبعين بالمئة من أراضيها، فيما يبقى عليها أنّ تستعيد السيطرة على منطقة إدلب التي تحتلها تركيا في شمال غرب البلاد، ومنطقة شرق الفرات التي تحتلّها الولايات المتحدة بمعونة من قوات سوريا الديمقراطية، وقاعدة التنف التي تشكّل منطلقاً للاعمال الأميركية العدائية ضد سوريا. لذا فإنّ مراقبين رأوا في الزيارة رسالة إيرانية إلى الولايات المتحدة بضرورة الانسحاب من الأراضي التي تحتلّها في سوريا.
تأكيد عمق العلاقات مع دمشق في زمن السلم
كذلك فإنّ زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق تأتي في ظلّ انفراج في العلاقات السعودية الإيرانية، والذي جاء برعاية صينية، وهذا ما أغضب الولايات المتحدة الأميركية. وقد ساهم هذا الانفراج في تخفيف حدّة التوتّر في عدد من السّاحات الإقليمية وعلى رأسها اليمن الذي شهد انفراجات سياسية وأمنية، وسوريا التي استطاعت إحداث اختراق في جدار العزلة العربية التي فرضت عليها، والذي تمثّل خلال الأسابيع الماضية بزيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى مصر والمملكة العربية السعودية وتونس للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة السورية، إضافة إلى زيارته إلى الجزائر، والحديث عن عودة سوريا لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية بعد عقد على تجميد عضويتها في الجامعة، ( أبلغت رسمياً بتاريخ 6 أيار بالعودة).
وقد مهّد هذا إلى تسابق من قبل القاهرة والرياض لخطب ودّ دمشق، في ما بدا وكأنّه محاولة احتواء لدمشق وإبعادها عن طهران في زمن السلم، وهذا ما جعل الرئيس رئيسي يتجه إلى دمشق لتأكيد أنّه في زمن السلم فإنّ العلاقات الإيرانية السورية لن تتراجع، خصوصاً أنّها تستند إلى عقود من التحالف الاستراتيجي الذي ترسّخ بين البلدين منذ زيارة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى طهران ولقائه قائد الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني. وقد أثبت هذا التحالف قوّته في مواجهة تحوّلات دولية وإقليمية حدثت على مدى السنوات الثلاث والأربعين التي مرّت، خصوصاً أنّه ساهم في منع محاصرة إيران وسوريا من قبل الولايات المتحدة وحلفائها.
البعد السياسي للعلاقات الاقتصادية
ولأنّ منافسي إيران الإقليميين يسعون لاحتواء دمشق اقتصادياً، مستفيدين من الوضع الاقتصادي السيّء الذي تعاني منه سوريا ومن ميل البورجوازية السورية التاريخي إلى علاقات اقتصادية قوية مع دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، فإنّ زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق جاءت برفقة وفد اقتصادي إيراني كبير بحث في التعاون الاقتصادي بين سوريا وإيران في كافّة المجالات. ويعكس هذا وعياً إيرانياً إلى ضعف العلاقات الاقتصادية بين البلدين والتي لا ترقى إلى علاقات التحالف الاستراتيجي بينهما، إذ لا يتجاوز حجم الصادرات الإيرانية إلى سوريا 110 مليون دولار سنويا،ً فيما لا تتجاوز الصادرات السورية إلى إيران 11 مليون دولار سنوياً.
ومن بين المشاريع التي تمّ التوقيع عليها بين الطرفين السوري والإيراني قبيل زيارة رئيسي إلى دمشق، اتفاقية لإكمال شبكة السكّة الحديد المنطلقة من إيران عبر العراق إلى سوريا، وتشكيل ثماني لجان مختصّة بالعلاقات المصرفية والتّأمين والنّقل والنّفط والزراعة والسياحة الدينية، ومعالجة الديون السورية المستحقة لإيران. كذلك فإنّ إيران تسعى للحصول على امتياز لإدارة ميناء اللاذقية الذي يؤمّن وصول إيران إلى شرق المتوسط، وهو طموح جيوسياسي إيراني قديم جداً ويعود إلى أيام الدولة الاخمينية بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد.
خلاصة
والجدير ذكره أنّ الهوية الجيوسياسية لإيران ترتبط عضوياً بلعبها دور جسر الوصل بين تجارة شرق آسيا مع شرق المتوسط. وفي زمن السلم، فإنّ الاستفادة من العلاقات الجيوسياسية القوية مع سوريا في المجال الاقتصادي يساهم في تعزيز دور إيران كحليف مهمّ للصّين في ربط تجارتها مع شرق المتوسط وطموحها إلى ربط اقتصادات الدول الاوراسية بشبكة من الطرق البرية التي تصل شرق آسيا بشرق المتوسط وأوروبا بما يتجاوز طرق الملاحة البحرية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة الأميركية، وهذا يشكّل عنصراً أساسياً من مبادرة حزام طريق الصين.