لم يعد هناك من شكّ أنّ التّضخّم بدأ يتغلغل في الاقتصاد اللبناني مُنذرًا بمرحلة طويلة من التخبّط الإقتصادي ستتأثر به الأجيال المُستقبلية. وإذا كان تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي يتحمّل جزءًا من المسؤولية، إلّا أنّ الأكيد أنّ ارتفاع الأسعار الاصطناعي الذي يقوم به تجار المواد الغذائية والمحروقات والأدوية يُساهم بالنسبة الأكبر من هذا التضخّم.
هذا الإرتفاع الإصطناعي للأسعار تُثبته الأرقام في هذه القطاعات، وقد ارتأينا إعطاء مثال عن ذلك جرّة الغاز التي من المفروض أن تعكس أسعار الغاز العالمية خصوصًا أنها خاضعة لتسعير وزارة الطاقة والمياه.
أسعار الغاز
قمنا بالحصول على سعر الغاز في الأسواق العالمية، واستحصلنا على أسعار جرّة الغاز من موقع iptgroup.com.lb وقمنا بتحويل سعر الجرّة إلى دولار أميركي عبر إستخدام سعر السوق الموزاية من موقع lirarate.org. النتائج موضوعة على الرسم المرفق حيث نرى أن سعر الغاز العالمي إنخفض من حدود السبعة دولارات في تشرين الثاني من العام الماضي إلى 2.4 دولار أميركي في أواخر نيسان من هذا العام. في المقابل، نرى أن سعر جرّة الغاز في لبنان بقي مُستقرًا حتى بداية العام الحالي ليرتفع بعدها بشكل ملحوظ إلى مستويات وصلت إلى 16.5 دولار أميركي للجرّة (خلال يوم واحد!) و15.6 دولار أميركي على عدّة أيام.
وقد تكون المنهجية التي اتبعناها لا تعكس بدقّة ما يحصل فعليًا على الأرض، إلّا أنّ الأكيد أنّ الأرقام لن تكون بعيدة عما وصلنا إليه. وبالتالي نرى أن هناك ارتفاع في الأسعار لا يُمكن تبريره لا بالأسعار العالمية ولا بسعر الدولار مُقابل الليرة اللبنانية في السوق الموزاية. لهذا المطلوب من وزارة الطاقة والمياه التي تقوم بوضع الأسعار أن تعمد إلى شرح آلية التسعير ووضع المعادلة الحسابية أمام الرأي العام!
مما تقدّم نرى أن المؤسسات الرقابية الرسمية غائبة عن الرقابة وتتحمّل مسؤولية كبيرة في التضخّم المصطنع الذي يعيشه لبنان.
تداعيات التضخّم
يُعتبر التضخّم "آفة الاقتصاد" أو بتعبير آخر "شرّ لا بدّ منه" شرط أن يكون بمستويات لا تزيد عن 2% (معاهدة ماستريتش مثلًا). ويُمكن تشبيه التضخّم بالنسبة للإقتصاد كحرارة الإنسان حيث أنّ حرارة عالية تقتله وحرارة مُنخفضة أيضًا تقتله، وهو بالتحديد ما يحصل في الاقتصاد مع التضخّم. وإذا ما استمر التضخّم بمستويات عالية في الاقتصاد (لفترة طويلة) فإنّه يتحوّل لمرض سرطان لا يُمكن إزالته بسهولة!
وهنا تكمن المشكلة بالتحديد، فالأجيال الحالية التي تُعاني من ارتفاع الأسعار بشكل كبير وتغوص في الفقر جراء تآكل قدرتها الشرائية، ليست الوحيدة المُتضرّرة، حيث أن الأجيال المُستقبلية ستتحمّل وزر التضخم وإذا ما أرادت مكافحته ستجد في المقابل عودة الدين العام إلى مستويات عالية. وهو ما يعني أن عدم كفاءة السياسات الإقتصادية الحالية ستُلقي بتداعياتها ليس فقط على الأجيال الحالية بل أيضًا على الأجيال المُستقبلية.
وللتذكير فقط، فإنّ البلد الوحيد في العالم الذي إستطاع أن يخرج من التضخم المفرط هو ألمانيا التي وصل فيها التضخم بعد إنتهاء الحرب إلى مستويات فلكية. إلّا أنّ التزام السياسات الإقتصادية تجاه محاربة التضخّم ودعم القطاع الصناعي، أدّيا إلى التخلّص من التضخّم على مر السنين. هذا الأمر لم يكن حال أكثر من 76 دولة في العالم حذفت أصفار من عملتها من دون نتيجة على مثال البرازيل التي حذفت ثمانية عشر صفرًا من عملتها وما زالت تُعاني من التضخّم حتى يومنا هذا. كذلك الأمر بالنسبة للأرجنتين وفنزويلا... وغيرها من البلدان.
دور الرقابة في التضخّم
بالطبع التضخّم يأتي بالدرجة الأولى من العوامل الإقتصادية، إلّا أنّ آليات التوزيع لها مسؤوليتها في التضخم كما يقول الباحث الإقتصادي الهندي "سنّ" الذي عزا المجاعة ليس فقط إلى النقص في المواد الغذائية بل أيضًا إلى آليات التوزيع في السوق، والتي تتحمّل جزءًا مُهمًا من ارتفاع الأسعار.
من هذا المُنطلق، نرى أن دور الرقابة يتمحّور حول مكافحة التضخّم المصطنع الناتج عن آليات التوزيع في السوق، وهو ما يجب أن يتمّ تنفيذه في لبنان تفاديًا للتداعيات المنصوص عليها أعلاه. هذا الأمر يعني أن تقوم الجهات الرقابية بمهامها على أكمل وجه وذلك على مستويين:
- رقابة الأجهزة الرقابية على التجّار.
- رقابة الأجهزة القضائية على الأجهزة الرقابية.
فمثلًا، هل أخذت وزارة الطاقة والمياه رأي هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل في موضوع المعادلة الحسابية التي تستخدمها لتحديد سعر جرّة الغاز؟ وهل من جهة قضائية رقابية تقوم بالكشف على عمل وزارة الطاقة والمياه وغيرها من الوزارات في ما يخص التطبيق؟
في الواقع مراقبة الأمور على الأرض، تُشير إلى أن الاقتصاد اللبناني تحوّل من إقتصاد يقوم على حفظ الحقوق (أي القضاء) إلى إقتصاد يعتمد على قانون الغاب (نفوذ اللاعبين الإقتصاديين) ونرى أن المراجعات التي يقوم بها المواطنون لا تُوصل إلى مكان.
فهل نرى تحرّكًا من قبل القضاء بعدما طرحنا هذا الموضوع؟ أم يحتاج هذا القضاء إلى مزيد من الإثباتات عن سلع وبضائع أخرى يتم رفع أسعارها عن غير وجه حقّ؟