أمين قمورية

دفع السودان منذ استقلاله ثمن النزاع بين العسكر والمدنيين، وهو اليوم يدفع ثمن الصراع بين العسكر والعسكر. الانقلابات العسكرية عمرها في هذا البلد من عمر استقلاله، فشلت مرّات عدّة ونجحت مرّات عدّة، وحملت، حيناً إلى السلطة عَبَدَةْ كراسي تمسّكوا بها ولم يغادروها إلّا قسراً إلى السجن أو القبر أو المنفى، وجاءت مرّة بظاهرة لم تتكرّر في التاريخ العربي الحديث، اسمها الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب، الذي زهد بالسلطة وسلّمها إلى المدنيين في الموعد المحدّد بعد انتهاء الفترة الانتقالية، التي أعقبت سقوط جنرال آخر هو جعفر النّميري بثورة شعبية.

هذه المرّة الجيش السوداني يقاتل جيشاً سودانياً آخر، صنعه بنفسه لمواجهة المتمرّدين في دارفور وولايات سودانية أخرى، وكبر هذا الجيش الموازي ونما حتى بات ندّاً عنيداً وصعباً للجيش الأمّ، يوازيه عدّةً وعديداً وسلاحاً، ومالاً ودعماً محلّياً وخارجياً.

قتال ومواجهات تكاد تكون صفرية بين الجيش الرسمي الذي يقوده رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان الجنرال عبد الفتاح البرهان، ونائبه في مجلس السيادة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي". معارك في المدن الثلاث للعاصمة: الخرطوم، خرطوم بحري وأم درمان. ما لبثت أن امتدّت سريعاً في كلّ الأرجاء السودانية، في كسلا والفاشر والأبيض ومروي وبور سودان والقضارف وكوستي والدمازين وغيرها.

روايات وروايات مضادّة أو متناقضة للطرفين. هذا يتحدث عن تقدّم ومكاسب، وذاك يتحدث عن تقدّم ومكاسب. غموض في شأن ما حدث ويحدث يضفي ابهاماً حول المآلات والاتجاهات والسيناريوهات المقبلة.

السودان إلى أين بعد هذه المعركة الاحجية؟

حتماً الاتفاق الإطاري المتّفق عليه للحلّ السياسي بين العسكر والمدنيين في رعاية أممية وأفريقية صار في خبر كان، وصار الانتقال المقرّر إلى الحكم المدني الديموقراطي بعيد المنال.

أمّا بعد، فالسيناريوهات كثيرة وكلها في انتظار نتيجة المعركة والقتال... هل ينتصر الجيش وينهي تمرّد قوات الدّعم السريع، أقلّه في العاصمة الخرطوم ومدنها، وتالياً فَرض سلطته الكاملة على البلاد بحكم قانون الطوارئ؟ للجيش مزايا قتالية تتمثّل بقدرته النّاريّة الجوّيّة والبرّيّة، ولقوّات الدعم مزايا قتالية تتمثّل بانصياعها الكامل لقائدها "حميدتي" وخفّة حركتها وخبرتها الميدانية الطّويلة في خوض حرب عصابات طويلة، وتالياً قدرتها على فرض حرب شوارع صعبة أو إغلاق مناطق نفوذ لها لاسيما في حاضنتها دارفور وولايات أخرى، وتالياً مواصلة حرب أهلية طويلة أشبه بتلك التي حدثت مع جنوب السودان، والتي قادت إلى انفصال الجزء الجنوبي عن البلاد وإقامة دولة مستقلّة، هي اليوم تضطلع مع مصر بدور الوساطة بين الجيشين الشماليين.

هل تنجح الوساطات المحلّية في التهدئة بإعادة الطّرفين إلى طاولة الحوار أم أنّ لا مكان لصوت العقل في ظل قرقعة السّلاح؟ ماذا عمّا يسمى فلول النظام السّابق أو تحديداً الحركة الإسلامية التي طردت من السلطة مع الجنرال عمر البشير وتتحين الفرص للعودة والانقضاض على هياكلها؟ هل تؤدّي جامعة الدول العربية دورها المفترض أم أنّ الخلافات العربية العربية والطامعة بموارد السودان تذكي نار الصراع وتشجّعه؟

 هل يدفع الاتحاد الإفريقي بكلّ ما أوتي من قوّة لمنع فتح جرح جديد في القارّة، أم أنّ دول الجوار ولاسيما أثيوبيا وأريتريا وتشاد ترى في الاشتباك فرصة للتمدّد في أرض جارها لمآرب خاصّة؟ هل تضغط الدول الكبرى على الطّرفين المتصارعين للتخفيف من زخمهما أم أنّ الصراع الدولي على أفريقيا لاسيّما بين أميركا وكلّ من روسيا والصين من جهة أخرى، سيجد ضالّته في خلاف جديد للانقضاض على العنق الشرقي للقارة؟ ماذا عن إسرائيل التي وقّعت اتفاقاً للتطبيع مع الخرطوم وعينها على البحر الأحمر لا تنام؟ ماذا عن مصر المعنيّة بالشأن السوداني لألف سبب وسبب، هل تحتمل خرقاً جنوبياً جديداً لأمنها القومي المنكشف شرقاً وغرباً وشمالاً؟  هل تقبل بنافذة أخرى في عمقها الحيوي يتسلّل منها الأثيوبي الذي يحاصرها بمائها في النيل؟ ماذا عن ليبيا المجاورة التي ينهكها الانقسام والتقسيم والحروب وحدودها المشتركة مع السودان مفتوحة لكلّ أنواع المسلحين والمرتزقة والإرهابيين؟ هل تفتح الحرب الحدود بين الدولتين الشقيقتين فيتحد الشعبين، ليس بالاستقرار والتنمية وحلم بناء الدولة الديموقراطية، بل بالبلاء والشقاء والموت المجّاني.

ماذا لو طالت الحرب لاسيما وأن عواملها قائمة وراسخة في السودان المفكّك والضعيف، الذي لم يعرف الاستقرار ولا السلام الداخلي منذ عقود، وثمّة كثر في المحيط الإقليمي والخارج لهم مصلحة في الاستثمار في مثل هذه الحرب وتغذيتها، أملاً بتحقيق مكاسب في لعبة الصراع الدولي على النفوذ التي تشهد تصعيداً في القارّة السمراء، أو تطلعاً إلى حجز قواعد على البحر الأحمر وفي القلب الحيوي للقرن الافريقي، أو طمعاً بمنجم ذهب أو معدن ثمين مدفون في السهوب السودانية.