علي شكر
على بعد 33 عاماً من اليوم، نفضَ لبنان غبار حرب استمرت 25 عاماً (1990)، ومنذ إزالة أول متراس عن خط التماس ونقله إلى كل مرافق الدولة، تكاد لا تصادف أي معاصر لحقبة ما قبل الحرب إلا ويتحسّر على بلد كان فعلاً درّة تاج هذا الشرق، وهذا لا يندرج في إطار الـ"كليشيهات" بل تلتمسه من أطراف الأحاديث التي تتداخل مع الكثير من العاطفة وتصل حدّ "الغصة".
بعد 3 عقود ونيّف وفي ظلّ ما تمرّ به البلاد من أزمات، فإنّه لمن المُجدي إجراء جردة حساب شعبية صغيرة تبيّن أين أخفقنا كشعب بالدرجة الأولى، وهنا الاعتراف بالخطأ أكثر من فضيلة، بدءاً من قبولنا تولي أمراء الحرب زعامة طوائفنا، ثم رضانا على تقاسم النفوذ وفق المبدأ الطائفي على قاعدة الـ6 والـ6 مكرّر، وقاعدة أخرى لا تقل بشاعة، فإذ لم يأخذ حصة الطائفة، فهناك من سيأخذها من الطوائف الأخرى.
حقدٌ دفين متأصل على كل الحركات المقاومة والقومية واليسارية والاشتراكية الفعلية المناضلة، يقابله حقد مماثل على الانعزال واليمين والغرب والرأسمالية. فحتى أمس القريب صُوّر اليساري رجلاً لا يزال يعيش على أمجاد الماضي سِكيِر ثمل، رث الملابس، كما تم تظهير اليميني على أنّه مليء بكل دوافع الحقد والتطرف بسبب وبلا سبب. غالبيةٌ يدّعون الإنفتاح في بلدي ويلبسون ربطات العنق. هم من ناهبي الشعب عبر وضع أيديهم على مقدراته بالدرجة الأولى بدءاً من الأملاك البحرية وصولاً للمشاعات ومزاحمة الشباب اللبناني حتى على قروض الإسكان وغيرها مما ظهر، أما ما بقيَ خافياً فأعظم وأدهى.
في هذا البلد ترتعد فرائص بعض من هم في موقع المسؤولية ليس من التهديدات والمكائد، لا بل اكتشاف الثروات حيث كان الامتحان الأخير الأشد صعوبة (التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية)، وحتى الآن هناك من يحاول اقناعنا بأن لا غاز ولا نفط قبالة شواطئنا خوفاً على حساباته السياسية والمصرفية الخارجية، والآتي باسم "ترميم المؤسسات" بعد كل هذا الإنهيار، حتماً سيكون عنوانه "الخصخصة" التي دائماً ما يفوز بها النافذون وأزلامهم.
ورغم كل ما نعيش لايزال بعض أصحاب الفكر النيّر يُجهدون أنفسهم بأن زمن الاقطاع قد ولىَّ إلى غير رجعة، وكأن "الواسطة" التي نسمع عنها من أجل كسب قوت اليوم (الوظيفة) في مؤسسات الدولة ليست إذلالاً؟ أو حتى الفوز بالمناقصات وعقد الصفقات الكبرى لنهب ما تجنيه أيدي الشعب مقابل الفتات ليس إقطاعاً؟ ان لم تكن تلك صفات الاقطاعيين فما هو الاقطاع إذاً؟ أم أنّ التعيين عادة ما يحصل حسب الكفاءة؟! من يجرؤ على إظهار بعض من اختلاف فكره عن "بوسطة مؤسسته" ومن يركبها؟ في أي ادارة غلب عليها طابع طائفي معين.
بوسطة عين الرمانة التي أضلّت طريقها في ذلك الأحد قبل 48 عاماً، رميت بالرصاص وبقيت في مكانها على تقاطع الكنيسة، ولكنها في المضمون عبَرَتْ إلى كل منطقة في لبنان، ودخلت كل حي وفناء كل بيت، حتى أصّلت فكراً في النفوس لا يزول.
تُنفخ الاذان وتُطّبَلُ الرؤوس بعناوين العيش المشترك، ولكنه لو وجد لما تناولته الأحاديث على نسقه الأسطوري هذا، حيث بات أشبه بالدخان الذي يخرج من فوهة الفانوس ولكن من دون المارد، استنشاقه يعطي اندفاعاً نحو الاستفاضة بكذب من نوع إبداعي منمّق، حتى بات يُصدق أحياناً، وهناك من يُقسم بأنه رأى مارداً ويختلف لونه من كاذب الى آخر.
على خط الحضيض نفسه، ها هو شقى الأعمار وما جنته الأيادي المتشقّقَة من سنين التعب، بَخّرته البنوك بليلة وضحاها، تُضرب الكف على الكف من دون لا حَولَ ولا قوة. وحتى الأمس القريب استمرّ مسلسل الضحك على الشعب. فها هي "فتيشة" اعلامية حول امكانية إنشاء صندوق سيادي لاسترداد كبار المودعين أموالهم. ولكن من هم كبار المودعين؟ سرقوا جنى أعمار الآباء وأرهقوا الأبناء ويريدون تحميل الأحفاد إرث دَيْن جديد.
أزَماتنا لن تنتهي يوماً يا سادة، لأن الأزمة الحقيقية أزمة أخلاق قبل الإقتصاد والطائفية والنقد وإدارة شؤون الدولة، من نسيَ منّا جبهات الاقتتال الدامي على خطوط التماس، ها هي المعارك الافتراضية على مواقع التواصل الإجتماعي بين الناشطين بسبب فرق التوقيت تعيد إشعال فتيل الحرب أو تكاد كل ما في الأمر أنها تنتظر لحظة ترجمة الأقوال إلى أفعال، وليس أسهل من ذلك إذا توفّر التمويل والدعم.
لقد تناقلت القبائل العربية في الجاهلية الحديث عن أسطورة مخيفة أسمها الـ"نسناس"، إذ كانوا يعتقدون بأنه نتاج تزاوج شيطان مع الإنسان، ولديه القدرة على قتل البشر وجعلهم بلا جسد بمجرّد لمسهم .فكم واجهنا من "نسانيس" في تاريخ لبنان الحديث والقديم! ألَم يتحول الشعب بأكمله إلى ضحية حين مر بهم نسناس الطائفية، ونسناس المصالح الخارجية والداخلية، ونسناس الطمع والخوف والحقد؟؟. هل كان نسناساً واحداً فعلاً أم أننا كنا ضحية طائفة من النسانيس؟. طائفة عابرة للمعتقدات والحدود يجمعها برنامج عَملٍ موحّد، ومشروعٌ أساسه دمّ وآخره ندم.