المحرر السياسي
على مدار 12 عاماً، تحمّلت الدولة اللبنانية تبعات نزوح ما يزيد عن مليونَي نازح سوري، وما ترتّب عن ذلك من نتائج كارثية ما زالت الدولة ومواطنوها يعانون منها حتى في عزّ الأزمة الراهنة، وما يرافقها من تدهور وانهيار مأساوي للمنظومة الاجتماعية، الاقتصادية، المالية، النقدية، الأمنية، التربوية، الاستشفائية وغيرها.
الذُلّ بعينه
مواطنون لبنانيون يستأجرون بطاقات هوية من النازحين السوريين لمدة يوم أو يومين أو أكثر، بهدف الدخول إلى المستشفيات الحكومية للاستشفاء، كون أفضلية الاستشفاء هي للنازح السوري. فَمَن يسدّد تكاليف علاج المواطن اللبناني؟
من بوابة عصابات السرقة على اختلاف أنواع المسروقات والسلب والقتل والهيمنة على الأسواق التجارية وفرص العمل، ومن بوّابة القبض على عددٍ كبير من السوريين عند كل مداهمة لمطلوبين وتجّار مخدرات، كما من بوابة البحث عن أسلحة داخل المخيّمات، تستدرك الحكومة اللبنانية وأجهزتها الأمنية الأخطار المحتّمة المقبلة لا محالة، وخاصة الأمنية منها والديموغرافية. يأتي هذا في وقتٍ توقّفت (أو تمّ توقيف) العودة الطوعية التي بدأت العام الماضي نتيجة الإغراءات التي قدّمها المجتمع الدولي للنازحين لتشجيعهم على البقاء.
أي مداهمة قام بها الجيش والأجهزة الأمنية على مدار العام الفائت شهدت توقيف العديد من النازحين السوريين ممن سبق لهم وانتموا لعصابات الخطف، كما شاركوا مع تجّار المخدرات في أفعالهم الجرمية، ناهيك بعصابات سرقة وسلب نشطت بفعل الأزمة الاقتصادية التي ألمّت بالبلاد، وأحياناً كان هؤلاء على رأسها.
كذلك، شهدت بلدة القاع الحدودية سرقة ممنهجة لـ "ترنسات الكهرباء والأسلاك النحاسية"، وقبلها لألواح الطاقة الشمسية من عن أسطح المنازل وأعمدة كهرباء الطرقات، حيث تمكّن الجيش اللبناني هناك من توقيف عصابة مؤلّفة من نازحين سوريين يقطنون في المخيمات. ومع اتّساع رقعة تهديد النازحين للبيئة المضيفة، أصبح ما يزيد عن 75% من اللبنانيين يعيشون تحت مستوى خط الفقر، في حين فاق مدخول أي نازح من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بأضعاف مضاعفة مدخول أي ضابط أو مدير عام في القطاع العام في الدولة اللبنانية.
مصادر أمنية أكّدت أن جهد الأجهزة الأمنية منصبّ على ضبط مخيّمات النازحين (إلى حدّ ما)، وخاصة في البقاع الشمالي حيث يتواجد أغلبها بين عرسال والقاع ويونين والتل الأبيض والطيبة ومختلف البلدات البقاعية. وهي تُشكّل ملجأً ومحميةً لبعض النازحين المتسلّلين إلى الداخل اللبناني بطريقةٍ غير شرعية عبر المعابر الحدودية غير الخاضعة لرقابة أجهزة الدولة، نظراً لاتّساع البقعة الجغرافية، إضافة إلى بؤرٍ تصدّر عصابات سرقة تندمج في صفوف عصابات أخرى من أجل القيام بكافة الأعمال غير القانونية، بما فيها تجارة المخدرات والسلب والقتل، والمشاركة في إطلاق النار على القوى العسكرية خلال المداهمات التي تحصل في المنطقة.
الأزمة عزّزت الانقسام بين المضيف اللبناني والنازح السوري. فقد بات الأول يطالب بترحيل الثاني بعيداً عن المذهبية والطائفية، إذ إن الضرر لحق بكافة الفئات والأطياف، في حين أن التقديمات التي يحصل عليها النازحون، وإسرافهم في المصروف، عزّز من مستوى النقمة تلك.
ففي وقت كان اللبناني يبحث عن المازوت والحطب للتدفئة في فصل الشتاء، كان السوري يسحب ثمن المازوت من البنك وبالدولار "الفريش". زِد على ذلك المبالغ التي تُحدَّد لكلّ فرد من العائلة لشراء الحاجيات الشهرية، وما بينها من مزاحمة اللبناني والتسابق معه على فتح المحال والمصالح. هذه هي الحال في بلدة عرسال، على سبيل المثال لا الحصر، وغيرها من البلدات وحتى المدن الأساسية، حيث أصبحت أغلب محالها مستثمرة من قِبَل السوريين. مع الإشارة إلى وجود الكثير من المحال في بعلبك والقرى والبلدات المحيطة بها، وغيرها من محلات البالة (الـ"One Dollar")، علماً أن المنظومة الاقتصادية المنهارة انعكست سلباً على المنظومة الأمنية، ودخول السوريين على خط التفلّت أصبح هو الشغل الشاغل للأجهزة الأمنية.
جدير بالذكر أن لبنان هو البلد الذي استضاف أعلى نسبة من النازحين السوريين قياساً على عدد القاطنين اللبنانيين (Proportionnellement à la population Libanaise).
هي المسرحية بحدّ ذاتها... سوريون يبيعون اللبنانيين قسائم المازوت التي يتلقّونها من الأمم المتحدة للتدفئة، ويستعيضون عنها بـ"سرقة" الكهرباء داخل مخيماتهم، وبالتالي الاستفادة من التدفئة على حساب الدولة.
فوسط معاناة اللبنانيين مع أسوأ أزمة اقتصادية تضربهم، تبرز تلك الظاهرة التي يقودها السوريون، مستغلّين الشبكة الكهربائية التي تعاني أصلاً من تَهالُك، خاصة من جرّاء التعديات. أما المشكلة الأكبر فهي أن استغلال أموال المنظمات المانحة باتَ على "عينك يا تاجر". فبدلاً من أن ينصرف النازحون لشراء المازوت المدفوع لهم لتأمين دفء الشتاء بعكس الكثير من اللبنانيين، باتوا يحصلون على الدولارات "الفريش" لقاء تلك القسائم التي وصلت أسعارها إلى 450 دولاراً، الأمر الذي يزيد الضغط على سوق الصرف وعلى الكهرباء وعلى الدولة. فالسوريون يساومون "أبناء البلد" على تلك القسائم بأسعار تُنافس أسعار محطات المحروقات، لا بل يمتد الأمر إلى سوق مضاربة كبير بين بعضهم البعض، لتتنافس المخيمات في ما بينها على الأسعار والدولار "الفريش". المبالغ التي يستطيع أي شخص تحقيقها من بيع قسائم المازوت، تُعتبر ربحاً صافياً له، كونه يحصل عليها بشكل مجانيّ تماماً.
كثيرةٌ هي التقارير التي تتحدّث عن الكمّ الهائل من التعديات التي تعاني منها مؤسسة كهرباء لبنان. إذ تشير إلى وجود عمليات هدر كبيرة على الشبكة الكهربائية مصدرها مخيمات النازحين السوريين. فخلال فصل الشتاء وبعد أن يقوم السوريون ببيع قسائم المازوت الخاصة بهم، تلجأ الأغلبية الساحقة منهم للتدفئة من خلال المدافئ الكهربائية لسبب واحد وهو:
"السرقة العلنية للكهرباء، وعلى عينك يا تاجر".
ففي العام 2020 مثلاً، وقبل أن تشتد الأزمة في لبنان، وصلت نسبة السرقات الموصوفة على الشبكة الكهربائيّة إلى حوالي 50% من إجمالي استهلاك الكهرباء.
وفي السّياق، يروي صاحب أحد المحال كيف نشطت عملية بيع "شرائط الكهرباء النحاسية"، وهي عبارة عن شريط نحاسي يتمّ وصل أحد أطرافه بمصدر الكهرباء، فيما يكون الطرف الآخر مرتبطاً بقطعة معدنية تكتسب حماوة ليتدفأ السّوريون من خلالها. وهنا، يتزايد منسوب استهلاك الكهرباء بشكل كبير، لأن تلك الطريقة تحتاج إلى قدرات كهربائية عالية.
لقد فاق حجم "النهب" مبلغ مئتي مليون دولار. فقد قام بعض النازحين السوريين الذين قرّروا العودة إلى سوريا ببيع بطاقاتهم إلى نازحين آخرين دخلوا خلسةً إلى لبنان، ليستفيدوا منها قبل فترة تجديدها أو انتهائها. وتُشكّل هذه الأفعال موجةً جديدة ببحر نهب إمكانات الدولة و"السلبطة" على ما تبقّى من مقدّراتها.
خطر التوطين من باب "مكتومي القيد":
حتى نهاية العام 2022، تمّ توثيق وجود أكثر من مليونَي نازح، وولادة أكثر من 225 ألف سوري في لبنان من عائلاتٍ نازحة. هذا عدا عن الولادات غير المعروفة وتلك غير المسجلّة وولادات السوريين المُقيمين من غير النازحين. ومِن مخاطر عدم تسجيل النازحين: أي مولود لا يُسجَّل على أنه سوري، يُعتبر بعد فترة "مكتوم القيد".
هذا الوضع ينتقل من جيل إلى آخر. فـ"مكتوم القيد" لا يستطيع أن يعود إلى بلده، ولا أن يُوطَّن في دولة ثالثة بغياب الوثائق الثبوتية اللازمة. وهذا يؤدي إلى إمكانية تجنيدهم في مجموعات مسلّحة إرهابية، أو في أجهزة أمنية تعمل لصالح أجندات خارجية، فضلاً عن أن مخاطر التوطين تصبح واقعة لا محالة.
مصادر متابعة للملف تقترح بعض الحلول ومنها:
- فتح حوار جدّي ما بين الحكومتين اللبنانية والسورية
- إثارة موضوع رفض المفوضية العليا لشؤون اللاجئين UNHCR عودة النازحين السوريين إلى بلادهم
- التشجيع على العودة الطوعية للنازحين وإلّا سيُصار حكماً إلى:
- اندماج النازحين في المجتمع اللبناني
- الضغط على الحكومة اللبنانية اقتصادياً من أجل توطين بعض النازحين
- الضغط من أجل تحويل المساعدات التي تُقدَّم للنازحين في لبنان إلى الداخل السوري
- إنشاء مخيمات داخل المناطق الآمنة في سوريا
ختاماً، لم تَعُد البنى التحتية في لبنان تحتمل هذا "الديناصور" العددي من النازحين. وهنا لا بدّ من التأكيد من أن معالجة أزمة هذا "الديناصور" تُشكّل بحد ذاتها المدخل لحلحلة الأزمات الاقتصادية وتوابعها. وهي أهم بكثير من حصول الانتخابات الرئاسية التي ننتظرها جميعاً.
وأخيراً، في نهاية مطاف هذا الواقع الأليم، سيَبتلعُ "الديناصور" الفيل المنهَك،
و... تُصبِحون على وَطن.