أمين قمّورية
لم تنجح موسكو حيث نجحت بكين. الجهود الروسية للتقريب بين الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره التركي رجب طيب أردوغان تراوح مكانها، في حين فجّرت الصين مفاجأة من العيار الثقيل بإنجازها اتفاقاً بين المملكة العربية السعودية وإيران من شأنه أن يحدث واقعاً جيوسياسياً جديداً في الشرق الاوسط.
في موسكو رفع الأسد بعد لقائه نظيره الروسي فلاديمير بوتين سقف شروطه للقاءٍ مع أردوغان. طالب بسحب القوات التركية من شمال بلاده، موحياً من خلال المكان أن موقفه يتناغم مع موقف الكرملين المستاء ضمناً من إحجام أنقرة الالتزام باتفاقات خفض التصعيد بموجب مسار أستانة.
لكن الجمود على المسار السوري التركي في المقلب الروسي، قابله حراك كبير في المقلب الصيني، قد يكون لدمشق نصيب من نتائجه الإيجابية. اتفاق بكين من شأنه أن يلجم الاشتباك الدائر بالوكالة بين إيران والسعودية على الأرض السورية، كما من شأنه أن يبدد المزيد من الغيوم التي تعتري صفاء العلاقات العربية السورية، ويفتح آفاقاً جديدة لعملية التطبيع الجارية حالياً بين دمشق ومعظم العواصم العربية الأخرى. كان لافتاً كلام الأسد عن السعودية في موسكو، قال أنها "اتخذت منحى مختلفاً منذ سنوات، ولم تعد تتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا". وكان لافتاً أكثر قول وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، إن الدول العربية في حاجة إلى مقاربة جديدة حيال الأزمة السورية. وكان الأمر أشدّ وضوحاً في الإمارات على لسان رئيسها الشيخ محمد بن زايد الذي شدّد على "ضرورة عودة سوريا إلى محيطها عبر تفعيل الدور العربي".
زيارة الأسد لأبوظبي هي الثالثة للإمارات منذ بدء الأزمة السورية، وتأتي ضمن منهج يهدف إلى ترسيخ معالم حقبة جديدة، تنحو نحو توثيق دمشق علاقاتها الثنائية مع الدول العربية.
[caption id="attachment_6435" align="aligncenter" width="1468"] الرئيس السوري بشار الأسد مع نظيره الإماراتي حاكم إمارة أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان[/caption]الزيارة التي لم تكن مدرجة على جدول الأعمال، شهدت اهتماماً إماراتياً ملحوظاً بالتفاصيل البروتوكولية الترحيبية. وكان لافتاً مُرافقة زوجة الرئيس السوري أسماء الأسد لزوجها في هذه الرحلة، وهو ما يمكن اعتباره سابقة منذ اندلاع الحرب في سوريا. وهي أجرت لقاءً مع والدة رئيس الإمارات الشيخة فاطمة بنت مبارك، التي اضطلعت بدور بارز في عمليات الإغاثة الإماراتية لسوريا في أعقاب الزلزال، حيث مدّت أبو ظبي جسراً جوياً ما زال مستمرّاً لنقل المساعدات، حيث تجاوَز عدد الطائرات على متنه الـ180 طائرة، بالإضافة إلى استقبالها عدداً من المصابين السوريين في مستشفياتها.
ومن المهم أيضاً التوقف عند تشكيلة الوفد الحكومي ذو الطابع الاقتصادي الذي رافق الأسد، الأمر الذي جرى ربطه بالأهداف الاقتصادية الواضحة للزيارة، في ظلّ رغبة أبو ظبي في المشاركة في عمليات إعادة الإعمار، والانخراط في مشاريع استثمارية عدة. ويمثّل الحماس الإماراتي للتطبيع مع دمشق جزءًا من استراتيجية هدفها طيّ صفحة ثورات الربيع العربي نهائيًا وتثبيت الانظمة الحاكمة، والحصول على فرص اقتصادية في سوريا في مرحلة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار، كما أنها ترغب في أداء أدوار وساطة كانت تقوم بها روسيا مع كل من أنقرة وتل أبيب.
ومن المتوقّع أن يتابع الرئيس السوري جولاته، وسط حديث عن دعوة عراقية، وتواصل مباشر مع الرياض. وسيكون من شأن كلّ ذلك أن يعيد هندسة العلاقات السورية - العربية، والتي اعتبرها الأسد أكثر أهمية في الوقت الحالي بالنسبة لحكومته من العودة إلى جامعة الدول العربية، مشيراً إلى أن هذه "العودة لا يمكن أن تتمّ قبل حدوث توافق عربي"، لازالت تعيقه قطر التي تعتبر أن الأسباب التي أدّت إلى تجميد عضوية سوريا لاتزال قائمة، وأن النظام لم يقدم بعد على أي خطوة من شأنها إحداث إصلاح داخلي.
المناخ التصالحي الجديد يسود في المنطقة، وثمّة من يرجّح أن تدرج مسألتا إعادة دمج سوريا في المنطقة والبحث في إعادة إعمارها، على جدول أعمال القمة العربية المقبلة التي ستنعقد في وقت من هذا العام في السعودية. علماً أن تقريراً لصحيفة "وول ستريت جورنال" تحدث عن رفض الأسد صفقة عُرضت عليه عبر الأردن، قوامها استئناف معظم الدول العربية علاقاتها مع دمشق، وتقديم مساعدات بمليارات الدولارات لإعادة البناء، والسعي لدى الولايات المتحدة وأوروبا من أجل رفع العقوبات، شرط أن يقبل الأسد بحلّ مع المعارضة وأن يوافق على إرسال قوات عربية لحماية اللاجئين الذين سيعودون إلى سوريا، وعلى مكافحة تهريب المخدرات من سوريا.
الولايات المتحدة تخشى أن يبني الأسد على المساعدات الإنسانية التي قدمتها الدول العربية، كي يفك طوق العزلة الإقليمية عن سوريا. وأكدت مراراً معارضتها التطبيع مع دمشق قبل تحقيق تقدّم نحو حلّ سياسي للأزمة السورية. وبرغم التحذيرات الغربية، كان لافتاً مضي الإمارات ودول عربية أخرى في مسار التطبيع الكامل مع دمشق. وعلى رغم الخطوط الحمر الأميركية، ثمة نافذة عربية قد فتحت على دمشق. لكن واشنطن التي لا تزال تحتلّ التنف وتقيم القواعد العسكرية في الشمال الشرقي السوري على امتداد يعادل ثلث مساحة البلد، وتركيا التي تنشر قواتها العسكرية خلف حدودها وفي داخل الشمال الغربي السوري على مساحة تتجاوز عشر مساحة البلاد، لا يزال لديهما الدوافع الاستراتيجية للإمساك بهذه الأراضي والبقاء فيها، وهما لا يعيقان استعادة سيطرة الدولة على كامل الأراضي السوريّة فحسب، بل أيضاً حتّى استعادة السلطة الحاليّة شرعيتها الدوليّة. فالتطبيع مع السلطة في دمشق يعني الاعتراف بسيادتها على كامل الأراضي السورية. كما يعني أيضاً أن كل تدخل لأي دولة، سواء إنساني أم غيره، يجب أن يمرّ سياسياً وجغرافياً عبر دمشق، قبل أن يصِل إلى شمال شرق سوريا أو شمال غربها. فهل يُمكِن أن يتطوّر التطبيع نحو هذه الوجهة، لاسيما أن المساعدات الانسانية بات حبل النجاة الأخير لملايين السوريين؟ وهل يمكن تجاوز العقوبات الأميركية المفروضة على دمشق التي تقف عقبة في وجه التطبيع معها؟ وهل يمكن توفير غطاء دولي للتطبيع قبل أن تجري دمشق إصلاحاً سياسياً يعيد الاعتبار للدولة كمؤسسة يرضى بها جميع السوريين وفي مختلف مناطقهم؟