جمال واكيم

خلال ست سنوات من المشاركة في الحكومات المتعاقبة، برز جبران باسيل كشخصية رئيسية في السياسة اللبنانية. وكان يسعى لبناء حيثية تفرضه رقماً صعباً في المعادلة اللبنانية. تزامن هذا الأمر مع حاجة رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري للعودة إلى الحكم نتيجة صعوبات مالية بدأ يعاني منها. وكان رهانه أن العودة إلى الحكم يمكن ان تفتح له مجالات في "البيزنيس" ليعيد ترميم وضعه المالي. وقد استغل سعد الحريري عملية انتقال السلطة في المملكة العربية السعودية بعد وفاة الملك عبد الله في العام 2014 وخلافة أخيه الملك سلمان له ليقنع الملك ونجله الأمير محمد بن سلمان أن عودته إلى السلطة ممكن أن تساهم في تعزيز نفوذ المملكة وتخفيف نفوذ حزب الله في هذا البلد. وقد أخذ سعد الضوء الأخضر للقيام بذلك وبادر بالاتصال بجبران باسيل عبر ابن عمته نادر الحريري، واتفق الجانبان على قبول سعد الحريري بدعم انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، على أن يكون هو رئيساً للحكومة طوال مدة هذا العهد.

في مواجهة أركان الطائف 

برزت الفرصة أمام جبران باسيل، فإقامة شراكة مع سعد الحريري يمكن أن توصل عمّه إلى سدّة الرئاسة، ويمكن أن تشكل أساساً لشراكة اقتصادية بين طبقة رأسمالية مسيحية سيكون هو ممثلها بحكم الاستفادة من موقع عمه. هذا سيتيح له إقامة ميثاق وطني اقتصادي مسيحي – سني يقابله الميثاق السياسي المسيحي - الشيعي الذي سبق وأقامه مع حزب الله عبر تفاهم مار مخايل.

بعد انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، بدأ باسيل باستقطاب أركان من الطبقة البورجوازية الذين سيرشحهم على حساب "مناضلين تاريخيين" في صفوف التيار الوطني الحر. وقد ترافق هذا مع ابتعاد أو إبعاد عدد كبير من "المناضلين" عن صفوف التيار الذين سينضوون تحت لواء المعارضة العونية.

تضخمت كتلة التيّار في انتخابات العام 2018 لتصبح نحو 29 نائباً، يُضاف إليهم أكثر من أربعين بالمئة من الوزراء بين وزراء التيار ووزراء رئيس الجمهورية. هذا التضخم بالقوة أوحى لباسيل أنه قد أصبح سيد اللعبة، وأنّ بإمكانه تصفية حساباته مع أركان الحكم الذين سيطروا على مفاصل الحياة السياسية بين العامين 1992 و2016. هنا حاول تهميش وليد جنبلاط بالاستناد إلى تحالفه مع وئام وهاب والأمير طلال. كذلك حاول احتواء القوات اللبنانية تحت شعار مصالحة معراب و"أوعى خيّك"، كما حاول تهميش نبيه بري عبر رفع لواء مكافحة الفساد في وجهه.

انقلاب الهيلاهو

بعد عام من التسوية السياسية انتبه الأمير محمد بن سلمان إلى أن ما وعده به سعد الحريري لجهة تدعيم نفوذ المملكة والتخفيف من نفوذ حزب الله في لبنان لم يتحقق. هنا لجأ إلى دعوة الحريري للقاء عاجل في تشرين ثاني 2017 في الرياض تم خلاله الإبقاء على رئيس الوزراء اللبناني تحت "الإقامة الجبرية" لعدة أيام. لكن الخطوة أتت متعثرة وساهم تدخل قوى دولية على رأسها فرنسا في عودة الحريري إلى لبنان. هذا أدى إلى تجاوز التفاهم لعثرة كبيرة، إلا أن وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في أوائل العام 2019 سيخلط الحسابات في لبنان. لقد كانت إدارة ترامب واقعة تحت تأثير صهيوني قوي من جهة، وتأثير من مهاجرين لبنانيين من القوات اللبنانية مثل وليد فارس من جهة أخرى. ساهمت هذه اللوبيات إضافة إلى رغبة من قبل إدارة ترامب في محاصرة حزب الله لتهيئة الظروف للانقلاب الذي سيحصل في خريف العام 2019 في لبنان.

ساهمت عوامل عدة في الركود الاقتصادي الذي بدأ يضرب لبنان كان من اهمها العزلة التي فرضتها المملكة على لبنان والتي التزمت بها الدول الخليجية، علماً أن الاقتصاد اللبناني كانت قد أعيدت هيكلته بعد العام 1992 لجهة تعزيز الاقتصاد الريعي المالي المضارب على حساب القطاعات المنتجة من صناعة وزراعة. وجاءت العقوبات الأميركية على بعض المصارف اللبنانية لتفجّر فتيل الأزمة في ربيع العام 2019 والتي ستدفع بالناس الى النزول إلى الشارع في خريف العام 2019. دخلت القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية ومنظمات المجتمع المدني المموّلة خارجياً للسيطرة على التظاهرات الجماهيرية وتوجيهها لاستهداف حزب الله من جهة، وحليفه جبران باسيل من جهة أخرى، محوّلين هذا الأخير الى عنوان الفساد وكل الأزمات التي يعاني منها لبنان منذ زمن المتصرفية حتى يومنا هذا. وسينجح الانقلاب بالاطاحة بحكومة سعد الحريري، ما أدى إلى دكّ أركان الميثاق الوطني الاقتصادي الماروني – السني الذي راهن عليه جبران باسيل. إلا أن ميشال عون سيتمكن من مواصلة عهده إلى آخر يوم من ولايته.

نهاية الميثاق السياسي الماروني – الشيعي!

بنتيجة تركيز الحملة على جبران باسيل فلقد أصيب رئيس التيار الوطني الحرّ بضرر كبير. وكان خصومه وعلى رأسهم القوات اللبنانية يراهنون على ضربه لتَعْرية حزب الله من تحالفاته السياسية من جهة، وللسيطرة على الساحة المسيحية بأكملها من جهة أخرى. وكان هؤلاء يراهنون على تتويج الحملة بتقليص حصة التيار الوطني الحرّ إلى عشرة نواب في البرلمان في انتخابات العام 2022. لكنه حصل على 19 نائباً، يضاف إليهم ثلاثة من حزب الطاشناق ما جعله يتفادى الهزيمة ويدّعي أنه يمثل الكتلة المسيحية الأكبر في البرلمان.

بعد أشهر قليلة انتهت ولاية ميشال عون دون التوصل لانتخاب رئيس يخلفه في ظل الاستقطاب الحاد بين أركان النخبة السياسية اللبنانية. كان حزب الله قد تفادى الوقوع في عزلة سياسية ومنع اكتمال مسلسل الانقلاب الأميركي في لبنان. إلّا أنّه كان يعي أن حليفه جبران باسيل قد أصيب بأضرار بالغة وأنه يلقى معارضة من قبل معظم الطيف السياسي اللبناني بمن فيهم حلفاء لحزب الله على رأسهم نبيه بري. والأدهى من ذلك أن باسيل كان يواجه فيتوات من قبل دول عدة على رأسها الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وفرنسا وغيرها. وكان همّ الحزب كسب الوقت مراهناً على تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة خلال السنوات المقبلة. وكان على الحزب أن يمرر المرحلة مع رئيس يضمن أنه لن يطعن المقاومة في الظهر. وإذا كان جبران باسيل لا يمتلك حظوظاً، فإن مرشحا آخر أثبت وفاءه للمقاومة ولمحور المقاومة هو سليمان فرنجية يمكن أن يكون هذا الرئيس، لكن الأمر لم يرق لباسيل. هذا ساهم في بث بذور الخلاف بين باسيل والحزب والتي خرج بها "العونيون" إلى العلن ما زاد من حجم الضرَرْ، وصولاً إلى الحديث عن طلاق جرى مع الحزب.

لقد كان تفاهم مار مخايل بالنسبة لحزب الله هو السعي لإقامة تحالف "وطني" طائفي يعطيه عمقاً في السياسة اللبنانية، في الوقت الذي يواجه فيه المشروع الأميركي الصهيوني ليس فقط في مواجهة إسرائيل، بل على كامل خريطة المشرق العربي في سوريا والعراق وحتى اليمن. بينما شكل تفاهم مار مخايل وسيلة للجنرال عون ومن بعده صهره للوصول إلى رئاسة الجمهورية كمقدمة لإعادة المسيحية السياسية للعب دور الريادة في النظام الطائفي اللبناني. لذا فإذا كان بتصوّر الحزب انه يمكن الاستمرار بتفاهم مار مخايل بمعزل عن "المكتسبات" في الدولة، فإن تفاهم مار مخايل يبقى من دون معنى في حال عدم التزام الحزب بميشال عون ومن بعده جبران باسيل رئيساً للجمهورية. هذا هو سبب الطلاق الذي سيعزل التيار ويدفع حزب الله إلى أحضان حلف رباعي جديد يسعى نبيه بري إلى تشكيله مجدداً عبر اجتذاب القوات اللبنانية ووليد جنبلاط إليه لترميم معادلة الطائف وإدخال الحزب كملحق على المعادلة، علماً أن هذا يأتي في ظل الحدث الجلل الذي حصل والذي تمثل بالانفتاح الإيراني السعودي برعاية صينية.