أمين قمورية

العلاقات الأميركية الإيرانية في أسوأ حالاتها منذ انقلاب الرئيس دونالد ترامب على الاتفاق النووي عام 2018. والعلاقات الأميركية الإسرائيلية، تسودها حالة من الضبابية في ظل استياء واشنطن من السياسات المتطرفة لحكومة بنيامين نتنياهو، لاسيما خطتها لإضعاف القضاء، التي أدّت إلى انقسام داخلي في إسرائيل، كذلك الانفلات القمعي والاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الذي قد يفجر انتفاضة فلسطينية ثالثة.

وبين التصعيد مع الإيراني والتوتّر مع الإسرائيلي، تدور بين طهران وتل أبيب حرب صامتة تنذر بتطورات قد تكون الأخطر بين الطرفين، نظراً إلى الأوضاع الداخلية السائدة في كل من الجمهورية الإسلامية والدولة العبرية. وبين مشكلات الداخل الإسرائيلي وحرائق الضفة الغربية، قد يختار نتنياهو الذهاب إلى إيران خشية الاستيقاظ على كونها دولة نووية، مستغلّا تعاظم الاستياء الأميركي من طهران، لاسيما مع توسع العلاقات العسكرية الروسية-الإيرانية، بعدما زودت طهران موسكو المُسيّرات، واحتمال أن تردّ روسيا الجميل الإيراني بتزويد شريكتها ببحر قزوين، منظومة الصواريخ الدفاعية "اس اس 400 " ومقاتلات "سو 35".

وزاد الطين بِلّة، تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية قبل أيام عن العثور على آثار يورانيوم مخصب بنسبة 84 في المئة في منشأة فوردو الإيرانية المدفونة تحت الجبل جنوب طهران، كان ذلك بمثابة جرس إنذار عبّر عنه وكيل وزير الدفاع الأميركي كولن كال بأنّ المدّة الفاصلة بين طهران والقنبلة تقلصت إلى 12 يوماً. ولأن جلّ اهتمام الغرب وواشنطن خصوصاً، مُنصَبّ على ما يجري في أوكرانيا وما قد يجري مع الصين، فإن الإدارة الأميركية تخشى من ان تغتنم إسرائيل هذه الثغرة لتنفيذ مغامرة ضد المنشآت النّووية الإيرانية. لذا هرع رئيس الأركان الأميركي مارك ميلي إليها، ولحق به وزير الدفاع لويد أوستن، بعدما سبقهما إلى هناك كل من وزير الخارجية أنطوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان ومدير الاستخبارات المركزية "سي أي إي" وليم بيرنز.

وبحسب المحلّل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، رون بن يشاي، فإن اللقاءات الأميركية الإسرائيلية، تسعى إلى وضع خطط مشتركة لردع إيران عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 في المئة بكمية تكفي لصنع قنبلة نووية واحدة أو أكثر، فيما ترى إسرائيل أن التهديد العسكري الإسرائيلي - الأميركي الجدّي وعقوبات إضافية قاسية ستردع الإيرانيين. وفي المقابل يرى الجانب الأميركي أن إسرائيل "دولة ذات سيادة" تستطيع التصرّف بحسب ما تراه مناسباً لمواجهة تهديد النووي الإيراني، إلّا أنها تطالب إسرائيل بالتنسيق الكامل وأن يكون القرار مشتركاً لأن واشنطن "ستضطر إلى المشاركة في الحرب التي قد تندلع، لأن الجنود الأميركيين المتمركزين في الشرق الأوسط سيكونون في خطر إذا هاجمت إسرائيل إيران بشكل غير متوقع".

يحصل كل ذلك وسط غياب أي تواصل ديبلوماسي أميركي ـ إيراني منذ توقّفت المفاوضات غير المباشرة بين الجانبين في العام الماضي. وفي واشنطن، ثمة من يلوم إدارة الرئيس جو بايدن على تردّدها في التّوقيع على اتفاق يُحيي خطّة العمل المشتركة الشاملة، لأنه مع وجود هكذا اتفاق، كان من الصعب على إيران أن تواصل مسار تخصيب اليورانيوم وأن تذهب إلى حد تزويد روسيا بالمُسيّرات الفتاكة.

الجيش الأميركي أجرى أخيراً مع نظيره الإسرائيلي أوسع مناورة جوية بعيدة المدى بين الدولتين حتى الآن.. لكن ذلك لا يعني بالضرورة قرعاً لطبول الحرب، بل رسالة إضافية لطهران لردعها عن مواصلة السير في الخيار الروسي وعدم التمادي في لعبة التخصيب، ذلك أن لإعلان الحرب حسابات أخرى وظروف لم تنضج بعد، أو لم يأتِ أوانها بعد في ظلّ الانشغالات العالمية الكبرى.

تسابق إسرائيل الزمن لمنع إيران من أن تتحول إلى دولة نووية، وذلك من خلال العمليات والهجمات المنسوبة إليها، والتي تستهدف المنشآت النووية الإيرانية والعلماء الذين يشرفون على المشروع النووي. امّا الحرب الواسعة فتحتاج إلى "شرعية دولية" واسعة ودعم أميركي لم يتوفرا لإسرائيل بعد.

الضربات العسكرية المحدودة التي تنفذها إسرائيل مباشرة أو بالواسطة قد تنجح في تعطيل برنامج إيران النووي على المدى القصير، لكن وقف البرنامج بالكامل أمر مشكوك فيه، ذلك أن طهران زادت من الاعتماد على منشآت نووية ممتدة على عمق كبير تحت الأرض لتجنُّب عمليات التخريب. والأهم من ذلك أن مواصلة هذه الهجمات ليس من شأنها إلّا أن تعزّز كفّة المؤيدين للتسليح النووي في إيران، وتعزّز موقف المتشددين في الحرس الثوري، ممن يرون أن النموذج الباكستاني النووي أنجع وسيلة لضمان السيطرة العسكرية على البلاد، وبالفعل فإن امتلاك باكستان لسلاح الدمار الشامل بعد المخاض العسير الذي مرّ به برنامجها النووي، مكّن المؤسسة العسكرية في البلاد من ترسيخ هيمنة الجنرالات على مفاصل السياسة في البلاد. ويعتقد ضباط كبار في "الحرس الثوري" أن الجمهورية الإسلامية دفعت فعلاً أثماناً باهظة لامتلاك برنامج نووي كامل وآن الأوان لحصد المكاسب السياسية.

ومن المفارقات أيضا أن الجهات الفاعلة الإقليمية التي كانت متشددة في موقفها من إيران، صارت الآن أكثر حذراً من تطور الأمور نحو الصراع المفتوح. فدول الخليج التي اندفعت نحو التطبيع أملاً بتوفير الحماية الأميركية والإسرائيلية لدرء ما تسمّيه "الخطر الإيراني" الذي لامس عمقها القومي في ذروة حرب اليمن، باتت تدرك كلفة التصعيد عليها، ومن ثم صارت الأكثر حماسا لاستقرار الإقليم. وانطلاقا من مبدأ ان التصعيد "ليس في مصلحة المنطقة ولا مستقبلها"، و "لا بديل عن الحوار"، استأنفت الرياض الحوار المباشر مع طهران للحيلولة دون تفاقم الصراع. أما قطر وسلطنة عمان، فتواصلان مساعي التوسط الحثيثة لمنع التصعيد.

الأمر الآخر، أن المواجهة العسكرية مع طهران ستؤدي إلى تعزيز العلاقة بين إيران وروسيا، وقد تدفع بموسكو إلى التخلّي عن حذرها من امتلاك إيران للسلاح النووي.

محاذير كثيرة تحول دون وقوع الحرب الشاملة... ومع ذلك تصرّ إسرائيل على أن تظلّ القوّة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن تحافظ على تفوقها النوعي على كل جيرانها، ويصرّ نتنياهو وقيادته المتطرفة على أن التّشدّد هو الوسيلة الوحيدة لحمل إيران على التراجع، وأن المقصد هو تحذير إيران وتخويفها، وليس الانجرار إلى الصّراع، بيد أن مناورات كهذه قد تتفاقم مع الوقت، وقد تفلت من لجامها وتؤول إلى مسار شديد الخطورة، لاسيما في غياب أي مخرج سياسي قابل للتطبيق.