جمال واكيم

في أيلول من العام 1920 أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير في ظل الانتداب الفرنسي. هذا الإعلان تم بعد مطالبة البطريرك الماروني الياس الحويك بضم بعض الأقضية في البقاع إضافة إلى سهل عكار وجبل عاملة ومدن صيدا وبيروت وطرابلس إلى متصرفية جبل لبنان، في إطار الحلم بإقامة وطن مسيحي كاثوليكي في الشرق. هذا الحلم كان يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر وقد جاء تتويجاً لصعود الدور الاقتصادي للكنيسة المارونية من جهة ودور أَدْيرة الروم الملكيين الكاثوليك من جهة أخرى، في ظل رعاية فرنسية وضعف الدولة العثمانية. لهذا يقال إن مجد لبنان أعطي له، أي للبطريرك الماروني الياس الحويك، وعبره إلى الكنيسة المارونية.

تشكّل لبنان الصيغة والميثاق

وبناء على هذه المقولة، أعيدت صياغة تاريخ للبنان منذ القِدم وحتى يومنا هذا ليكون للموارنة (أي الكنيسة) المحور الرئيسي فيه. وقد كان هذا الأمر معترفاً به من قبل باقي الطوائف التي ارتضَتْ إعادة صياغة تاريخها بما يتماهى مع سردية الكنيسة المارونية بأن لبنان كان ملجأ للأقليات المضطهدة. بعد عقد من الزمن ومعارضة شرسة للكيان اللبناني ارتضى المسلمون (سنة وشيعة ودروز) التعامل مع هذا الكيان من ضمن منطِقه الطائفي، فكان أن تَشَكّل المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى ليكون إطارا طائفيا للمسلمين يوازي الكنيسة المارونية كإطار طائفي للموارنة.

كانت الهيمنة المارونية على هذا الكيان نابعة ليس من تفوق عددي فقط (وهو عامل سيتراجع في الستينيات والسبعينيات)، ولا من رعاية فرنسا الأم الحنون في ظل غياب الرعاية عن باقي الطوائف (وهو أمر سيتغير بدءاً من أربعينيات القرن الماضي)، بل أيضا من علاقة الكنيسة الاقتصادية بفرنسا، والامتيازات الاقتصادية والتجارية مع فرنسا التي كانت تتمتع بها أسر بورجوازية كاثوليكية بالدّرجة الأولى.

لكن الأمور ستتغير بدءاً من أوائل أربعينيات القرن الماضي. ففي العام 1940 هزمت فرنسا على يد ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. وخوفاً من أن تتعاون حكومة فيشي مع الألمان وتحوّل لبنان وسوريا إلى قاعدة لضرب ظهر بريطانيا فيما كانت تواجه تقدم قوات الماريشال الألماني اروين رومل،  قامت القوات البريطانية باجتياح لبنان وسوريا تحت غطاء من قوات فرنسا الحرة بقيادة الجنرال شارل ديغول. هنا لم تعد فرنسا وحيدة في الهيمنة على لبنان وسوريا بل دخلت بريطانيا على الخط.

ترافق هذا مع صعود الاقتصادات النفطية في دول الخليج العربي، مثل العراق والكويت والبحرين والمملكة العربية السعودية ومن ثم الإمارات العربية المتحدة. هنا دخل رأسمال منافس للرأسمال الفرنسي متمثلاً بالرأسمال الأنكلوساكسوني ورأسمال البترودولار الذي ستستفيد منه أسر بورجوازية بيروتية وصيداوية. وكانت بريطانيا تسعى لإخراج فرنسا من المشرق، فدعمت شراكة قامت بين بشارة الخوري ممثلاً رأس المال المسيحي المستند إلى الرأسمال الفرنسي المُهَجّن أنكلوساكسونيا، ورياض الصلح المستند إلى علاقة تاريخية مع هاشميي العراق، فتحت أمام النخب البورجوازية التي يمثلها الباب للارتباط برأسمال البترودولار.

هذا الذي دفع البريطانيين إلى دعم شراكة الخوري – الصلح في المطالبة باستقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي. ولم تكن مقولة حياد لبنان "لا غرب ولا شرق" إلا للتَوْريَة على حقيقة أن لبنان كان قد انتقل من دائرة النفوذ الفرنسي إلى دائرة النفوذ البريطاني الهاشمي. أما الميثاق الوطني الذي نادى بغَلبة للموارنة على المسلمين، فلقد كان لا يزال يعكس غَلبة البورجوازية المارونية والكاثوليكية على البورجوازية الإسلامية.

وبالتوازي مع رأس المال هذا، فلقد شهدت مرحلة الخمسينيات والستينيات صعود رأس المال الشيعي المستند إلى الاغتراب في إفريقيا والولايات المتحدة الأميركية. هذا في وقت كانت فرنسا قد انسحبت فيه من لبنان وسوريا في بداية الخمسينيات لصالح بريطانيا، وارتضت النخب البورجوازية اللبنانية أن تُهَجّن نفسها عبر تهجين رأسمالها الفرنسي برأسمال أميركي، بالتوازي مع اندماج الرأسمال الفرنسي في فرنسا بمنظومة الرأسمالية الأميركية.

نحو ميثاق جديد هو اتفاق الطائف

لقد ولّد هذا الأمر ديناميات جديدة تمثلَت بمطالبة البورجوازيات الصاعدة بحصّة لها في النظام اللبناني الطائفي. فكان أن تشكل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى (برضى ماروني) ليقسم البلوك الإسلامي الذي واجه الرئيس كميل شمعون في الخمسينيات إلى قسم سني وآخر شيعي. ولم تكن الحرب الأهلية اللبنانية إلّا رسماً بالدم لحصص الطوائف الممثلة لنفوذ البورجوازيات المختلفة داخل النظام اللبناني.

مع حلول العام 1985 كانت التسوية الداخلية في لبنان قد نضجت لجهة استبدال الثنائية المسيحية – الإسلامية بزعامة مارونية سنية برباعية قائمة على ثلاث طوائف متعادلة في الحجم والنفوذ، وهي تُقسَم لنفوذ بين المسيحيين بزعامة الموارنة، ونفوذ بين السنة والشيعة مع لعب الدروز دور بيضة القبّان. كانت هذه هي التسوية التي توصلت إليها الطوائف اللبنانية برعاية سوريا في ما عرف بالاتفاق الثلاثي بين حركة أمل الشيعيّة بزعامة نبيه بري والحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي بزعامة وليد جنبلاط والقوات اللبنانية المارونية بزعامة إيلي حبيقة، فيما كان هنالك طرف رابع من وراء الستار هو رفيق الحريري ممثلاً السنة.

ولقد كانت الصيغة الجديدة تمثل الرأسماليات القائمة في لبنان تقليدياً، مثل تلك المعتمدة على رأس المال الفرنكوفوني المهجّن أميركيا بعد ستينيات القرن الماضي، مضافاً إليها رأسمال البترودولار الذي صعد خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ورأس المال الإغترابي الذي صعد بعد الخمسينيات من القرن الماضي. ومع حلول الثمانينيات كان الشيخ رفيق الحريري قد أصبح ممثلاً لكلَيْ الرأسمالَين البترودولار والرأسمال الفرنسي المهجّن أميركياً، وهذ هو سر علاقة الحريري القوية بالمملكة العربية السعودية من جهة، وبالنخب الفرنسية كجاك شيراك من جهة أخرى. أما الرأسمال الإغترابي في إفريقيا، فلقد كان يمثله نبيه بري المتحدر من إحدى الأسر التي اغتربت إلى سييراليون وكوّنت ثروة هناك.

كان هذا هو الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه في ما بين الرأسماليات المختلفة في لبنان برعاية سورية-سعودية، لكن سيتم تأجيل العمل به لسنوات نتيجة عدم رضى الولايات المتحدة عن دور سوريا بعرقلة المفاوضات الفلسطينية-الإسرئيلية التي كان يجب أن تبدأ سرّاً برعاية أميركية. مع حلول العام 1989 كانت سوريا قد توصّلت إلى تسوية مع الولايات المتحدة أنتجت تفاهما على تقاسم النفوذ في لبنان بين دمشق وواشنطن والرياض. هذه التسوية هي التي أنتجت اتفاق الطائف الذي كان في جوهره هو نفسه الاتفاق الثلاثي لكن هذه المرة برعاية دولية كاملة. وبنتيجة هذ الاتفاق فإن "مجد لبنان" لم يعد معطى فقط للبطريرك (ومن خلاله للكنيسة المارونية)، بل إن ثلاث طوائف أخرى ستصبح مشاركة بهذا المجد. وسيتم هذا برضى البطريرك الماروني والقوات اللبنانية اللذان وافقا على هذا الاتفاق في العام 1989، ولن يعترض على هذا الا قائد الجيش ورئيس الحكومة العسكرية الجنرال ميشال عون الذي سيدفع غالياً ثمن هذا الرفض. وسيبقى اتفاق الطائف قائما حتى العام 2005 عندما سيتم اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي سيليه انتفاضة شعبية بدعم أميركي ستؤدي إلى خروج سوريا من لبنان وفقدانها لحصّتها من النفوذ في هذا البلد، وهذا ما أدخل اتفاق الطائف بحالة موت سريري، ويبقى لهذا المقال تتمة.