أمين قمّورية

سنة مرّت على الحرب في أوكرانيا. جيش (فلاديمير) بوتين تقدم بصعوبة ولمسافة محدودة نسبياً في أراضي جارته، لكنه لم يحقّق نصراً كان يتوقّعه ساحقاً. كان يريد أن يعيد الجمهورية السوفياتية السابقة المتمرّدة إلى أحضان موسكو مجدداً لكنه نال الخيبة حتى الآن. في المقابل، حقّق الغرب مراده بجرّ الكرملين إلى حرب ضروس ومنهكة. لكن دعمه الكبير لـ(فولوديمير)  زيلينسكي لم ينجح في ردع موسكو وانهاء أحلامها القيصرية. والأهم، أن الاقتصاد الروسي تهشم لكنه لم ينهار كما خططت واشنطن ولندن وبروكسيل، ولايزال قادراً على مدّ الآلة العسكرية بالعتاد والأوكسيجين اللازمين لمواصلة القتال.

سنة مرت وكأن الحرب بدأت للتو. عشية انطلاق السنة الثانية من الحرب، ينطلق العدّ من جديد. (الرئيس الأميركي) جو بايدن يزور كييف عشية الذكرى. أراد أن يقول أن انتصار روسيا في هذه الحرب ممنوع، لأن انتصارها هنا يغيّر العالم. جاء ليرفع مستوى التعبئة السياسية والعسكرية خشية أن يفلت زمام الموقف من يد واشنطن. حضر إلى كييف ليقول للأوكرانيين، نحن ماضون في دعمكم ولن نترككم لقمة سائغة للروسي، وجمع "مجموعة بوخارست" في وارسو ليقول للدول التسع في أوروبا الشرقية، لا تخافوا نحن حريصون على عدم عودتكم إلى خلف الستار الحديدي.

في المقابل، بوتين رد على العقوبات الغربية المرهقة، بضربة استراتيجية. ألغى من طرف واحد معاهدة "ستارت"، وبدا بذلك وكأنه يلوّح فعلا بالخيار النّووي إذا ما جرى المسّ بالخطوط الحمر بنقل المعركة إلى الداخل الروسي، أو بإخراج موسكو من معادلات القوّة الدولية.

الحرب بدأت بين دولتين، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى حرب عالمية مصغرة على رقعة جغرافية واحدة. ومع بداية السنة الثانية، تتسع دوائرها بالإفراط في التحرّش بدول أخرى، ويبدو الأفق مسدوداً. الصين، تتعرض لحملة ابتزاز أميركية تتهمها بلا دليل بانها تمد موسكو بالأسلحة والذخائر. وبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان صارا أشبه بمرجلين يغليان بسباق التسلح وارتفاع نبرة التحدي. بكين تخشى أن تتورّط في حرب حتى لا تخسر في مساعيها نحو تبوّء الصدارة الاقتصادية العالمية. لكنّها إذا انزوت فهي مهدَّدة في المقابل بخسارة مستقبلها السياسي وإحكام الطوق العسكري والاقتصادي عليها.

بيلاروسيا، الحليفة الأخرى لبوتين، مطوّقة بالأفخاخ والمنزلقات.

أمّا إيران، فكان دعمها لموسكو بالطائرات المسيّرة سبباً إضافيا لقطع حبل الصرّة الأوروبي معها، وانهيار المفاوضات النووية وذريعة للحكومة المتطرفة في إسرائيل لشنّ المزيد من الغارات على أراضيها ومواقع حلفائها.

في المقابل، تواجه أوروبا ظروفاً وتحديات لم تواجه لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية، فقد أظهرت الأزمة نقاط الضعف الكبرى في الاتحاد الأوروبي، وهزت الاستقرار الاقتصادي والأمني فيه. فقطع مصادر الطاقة الروسية كان بمثابة الزلزال المعيشي للمواطن الأوروبي. كما أسهمت العقوبات الاقتصادية التي أرغمت واشنطن الحلفاء الغربيين على فرضها على روسيا، في خلق الشك والريبة المتبادلة بين الجانبين الأميركي والأوروبي، خصوصاً بعد أن ارتدّت العقوبات المتطرّفة وبالاً على الإقتصاد الأوروبي. وأدى هذا الوضع إلى تنامي بذرة التطرف والانعزال والانغلاق القومي في بنيان أوروبا الاجتماعي والسياسي، والجنوح الى العسكرة.

أوروبا امام خيارين: إمّا أن تبحث عن حلول صعبة وجذرية تحفظ مصالحها الكبرى وتؤكد استقلالها السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي، وتؤمن لها مسافة كافية عن واشنطن المصرّة على تمسّكها بهيمنتها على العالم، وتحميها من الهواجس التوسعية لموسكو. وإمّا أن تجد نفسها أسيرة لأحد الطرفين، في حال تمكّن أحدهما من تسجيل انتصار على حساب الطّرف الاخر.

ولطالما عرقلت واشنطن إنشاء جيش أوروبي مُوحد تحت ذريعة عدم إضعاف الحلف الأطلسي. ولطالما عطّلت وحدته بتشجيع بريطانيا على الخروج من التّكتّل القارّي، كما عملت على تقزيم الإتحاد الأوروبي بإضعافه إقتصادياً ومالياً وإشغاله بحروب لم يقرّرها.. تُهدّد حدوده ووحدته. فكيف بالأحرى الآن والتّنافس على ذروته بين أميركا وكلّ من الصين وروسيا على الزعامة الدّولية والسّعي إلى قيام عالم جديد متعدد الأقطاب؟ فهل تسمح لأوروبا بأن تفلت من قبضتها في ذروة هذا الصراع؟

بعد عام على الحرب الأوكرانية تتكشف طبيعتها عارية، باعتراف الرئيسين الأميركي والروسي. إنّه الصّراع الدّامي على مستقبل النظام الدّولي، حساباته وموازين القوى والمصالح فيه. صراع بين نظام دولى قديم ومتهالك ونظام دولي جديد يتعثر في قيامته. لعبة الأمم في ذروتها وصراع المصالح الكبرى في أوجّه والتحديات جسام والأثمان باهظة، وأي خطأ قد يجرّ إلى كارثة أو إلى المجهول، فهل تنجح واشنطن في إبقاء هيمنتها المطلقة على العالم أم تأخذ العبر من روما وتسلّم بأن العالم يتغير؟

طبيعة النظام العالمي المقبل، تفرض تلقائياً طبيعة نظامنا الإقليمي وشكله، وتحدّد موقعنا الصغير على خريطة الكبار. ولأن مستقبل العالم غامض وملتبس، لا يمكن تلمّس مساراته منذ الآن. فلا غرابة أن تكون معظم الأسئلة السياسية بلا أجوبة جازمة وأن تتعدّد الاحتمالات والسيناريوهات لما ينتظر العالم، ومنه منطقتنا والبلد، وأن يكون الضياع سيد الموقف في انتظار النتيجة الحاسمة للمعركة الكبرى التي قد تطول أو تقصر والتي ستكون حكماً باهظة الثمن.