أمين قمورية

أسباب كثيرة ساهمت في صعود نجم رجب طيب أردوغان ووصوله إلى السلطة في تركيا عام 2002، ابرزها الرفض الشعبي لهيمنة "الجيش الأتاتوركي" على الحياة السياسية والممارسات الفاسدة للدولة العميقة. لكن المصعد الأساسي لتصدّره الواجهة، كان الكارثة الطبيعية التي حلت بإزميت في آب 1999، عندما ضرب زلزال هذه المدينة الصناعية الواقعة على ضفاف بحر مرمرة.

[caption id="attachment_4713" align="aligncenter" width="838"] أردوغان متفقدا عائلات دياربكر بعد الزلزال[/caption]

يومذاك كانت استجابة السلطات التركية سيئة وبطيئة للغاية، الأمر الذي أشاع نقمة عارمة في صفوف أهالي الضحايا والعمال القادمين من كل الارجاء التركية للعمل في مصانع المنطقة. هذه النقمة أحسن اردوغان توظيفها في مساعيه السلطوية، فراح يغذي  المشاعر المعادية  للدولة العميقة ويقدّم نفسه بديلاً حقيقياً وشاباً حيوياً أكثر اكتراثاً بحياة البشر ومصالح الشركات من النخبة الحاكمة. وما لبث بعد تسلمه السلطة إثر حصول حزبه على الأكثرية المطلقة وتشكيله الحكومة منفرداً، أن بادر إلى إصلاح المؤسسات الحكومية المعنية بشؤون إدارة الكوارث. إلّا أنّ الإصلاحات هذه كانت قاصرة أمام تحديات الطبيعة، لاسيما أمام التحدّي الأكبر الذي حل بالبلاد والعباد أخيراً.

آلام كارثة ازميت، لا تقاس بفظاعة الكارثة الحالية التي هدمت سدس مساحة الوطن، وأدمت سدس العائلات التركية. ووسط البرد والثلوج، كانت أصوات الإستغاثة تتعالى من بين الركام ومن تحت الأنقاض، دون أن تلقى المساعدة أو النجدة السريعة أو الكافية. المعارضة تتهم أجهزة الدولة بأنها تأخّرت في أداء دورها وفي الاستجابة لنداءات الإستغاثة، وبدت شبه مشلولة، وهذا ما فاقم الغضب والخيبة بين الناس. صوّرت رجل تركيا القوي بأنّه تخلّف عن المهمة في اللحظة التي كانوا فيها بأمسّ الحاجة إليه. وتوقفت عند قوله للمتضررين أن الزلزال قدر من السماء، على عكس ما كان يقول بعد كارثة ازميت عندما نفى علاقة القدر بالزلزال، وحمّل السلطة مسؤولية الفشل وسوء التّقدير.

أردوغان حكم تركيا أكثر من أي رجل آخر في تاريخ الجمهورية، فهو شاء أم أبى يتحمّل مسؤولية عن الحصيلة الإجمالية للكارثة، ففي برامجه التي وضعها لتعزيز الاقتصاد، ركّز على قطاع البناء، وروَّج لمجموعة من المقاولين، أطلق عليهم زعيم المعارضة، كمال كيليجدار أوغلو، اسم “عصابة الخمسة”. فأردوغان منح الخمسة مشاريع بناء ضخمة، بينها مشروع مطار اسطنبول، ومشروع الجسور التي بُنيت فوق مضيقي البوسفور والدردنيل، ومشروع فتح “قناة اسطنبول” الموازية للبوسفور وتربط البحر الأسود ببحر مرمرة. وأصدر العديد من قرارات العفو المتعلقة بمشاريع البناء، كان آخرها عام 2018، وأفاد منها ما يقرب من 230 ألف مبنى تم تشييدها في عشر محافظات ضربها الزلزال الأخير. وهو أيضا يسيطر على الوكالات الحكومية المتخصصة بالكوارث والإغاثة عبر أنصاره والمريدين.  فضلاً عن أن نظام حكم الرجل الواحد أصيب بالخلل عندما استلزم تقديم المساعدة للضحايا قرارات وتنسيق مسبقين بين الوكالات والمؤسسات المعنية. وفي المقابل تعمد الحكومة إلى تقديم صورة السيطرة، والعمل الجاد المنسق، بما في ذلك طلب الدعم الدولي. وستقول إن إجراءاتها الاحترازية، وفي مقدمها قوانين الإعمار وشروط الأبنية ما بعد عام 2000، كان لها دور كبير في تقليل حجم الخسائر من مختلف الأنواع ولا سيما في الأرواح، وأنه لولا مشروع التطوير المدني مثلاً لكانت الحصيلة أفدح بكثير.

تركيا اليوم تواجه أزمة مالية حادة، وخزائنها فارغة. فهل ينتهي طموح اردوغان بـ"تركيا جديدة" وإحياء السلطنة، تحت أنقاض الزلزال؟

خاض الرجل القوي سلسلة طويلة من الصراعات والنزاعات مع قوى الداخل والخارج. فاز على العلمانيين والاتاتوركيين، أخضع الجيش لسلطته، غيّر هوية البلد. فهل يجتاز امتحان الانتخابات المقبلة تحت وطأة تداعيات الزلزال، ويعود إلى حكم البلاد لخمس سنوات مقبلة أم يعود معارضاً؟

تحديات ضخمة تواجهه، الأزمة الاقتصادية العاتية، قضية اللاجئين السوريين وثقلهم الديموغرافي والاجتماعي، ترهّل حزبه وشيخوخته، لكن الأثقل من كل ذلك هو تداعيات الزلزال.

أحزاب المعارضة لم تفوّت الفرصة، رفعت وتيرة الحملات الدعائية والسياسية ضده، وألقت عليه بالمسؤولية، وفتشت على كل ما يدينه. وستتكئ على فداحة الخسائر البشرية والمادية لتقول إن تقصير الحكومة ساهم في زيادة الفاتورة. وهي بدأت العمل سوياً وانضوت تحت برنامج سياسي واحد لكنها لم تنجح بعد بالاتفاق على مرشح واحد لمواجهته في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي والاشتراعي الذي عصفت موجات الزلزال بموعده.

الرّدّ الاستباقي هو من أهم مميزات أردوغان. وهو لا يتردد، باللجوء إلى الدفاع في قلب ساحة الهجوم، لمحاصرة خصومه السياسيين وقطع الطريق عليهم خلال محاولة نقل الكرة إلى أمام مربع مرماه، لكن ارتدادات الزلزال قابلة للتحول إلى حالات سياسية عاصفة تقود إلى تغيير قواعد اللعبة بين الحُكم والمعارضة في تركيا.

 وفي انتظار ما سيجري، لا يمكن إغفال حقيقة أن احتمال تراجع أصوات شعبية "تحالف الجمهور"، الذي يقود المشهد السياسي في تركيا منذ عقدين قائم طبعاً بعد كارثة الزلزال. لكن احتمال ولادة معارضة سياسية جديدة مختلفة غير القائمة اليوم، هي بين السيناريوهات أيضا. وهذا ما يعني فرصة سياسية بالغة الأهمية لأردوغان وحزبه للبقاء على رأس السلطة لحقبة جديدة. كل شيء وارد والصورة ستتضح أكثر عندما ينجلي غبار الركام والأنقاض.